hit counter script

- جهاد الملاح

أريد أن أعود!

الجمعة ١٥ آذار ٢٠١٢ - 15:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

كنتُ بين الحين والآخر، أرتّب التواريخ في خبايا الذاكرة، أفصُل بينها وأنسّقها، لأحفظها في مسار العمر، وأردّد أرقامها كلما أطلّت همسة من بين ثنايا العقل أو دبّ شوق في أسفل القلب. اعتدت ذلك كثيراً، عندما آثرت البقاء في وطن عرف كيف يحيا من بين الرماد، وكيف يغفو على صوت الرصاص، على أمل فجر جديد.
لكن ذات يوم، بدأت أحفظ تاريخاً واحداً أمَسَك بالعقل من أطرافه وتلاعب به، وأمعن عبثاً في الذاكرة، لعلّه يمحو أيامي وشوارعي ومُدني. في ذلك اليوم، عندما ارتضيت أن أضمّ إلى تواريخي أول يوم في الغربة، تبعثرت الذاكرة إلى حد الحطام.
فجأة، أصبح جواز السفر ذهباً أخفيه وأحرسه برمش العين، وصار القوت في نشرات أخبار على شاشات الوطن، أسمع أحداثها وأعيش أحداثاً أخرى، حتى كاد الانفصام يدبّ في جسدي.
في كل يوم، يستوحي العقل أفكار الطغيان، ليقمع القلب بتحليلات لا تنتهي وبمنطق يناهز الدين، بأن الزمن هو زمن البعد، ولا مكان للعودة. وتصول الأفكار وتجول، بين صفحات الوطن، بفصاحة تفقه جيداً جبروت الفساد والحكم السيئ وتلمع في وصف أحلام العيش والحرية والأمن والكهرباء، وتعرف أخبار طوائف ركِبت الهوية عنوة ومسحت ملامح الوجوه، بل تحفظ عن ظهر قلب قصة وطن أدمته حكومات بضاعتها النفاق ونتاجها العار.
في الغربة، زاد الجنى ونقص كل شيء، وأصبحت الحياة أحلام يقظة يفضحها شغب العيون. تكدست السنوات حتى صارت بلا معنى، لا يقودها إلا ذاك التاريخ المشؤوم، ولا فرق إن تحولت السنة إلى عشرين أو ثلاثين أو أربعين شهراً.
أعيش وأنتظر مع قلب يُتمتم بهمسات الحنين، وعقل يُخرج من جيبه قصصاً طويلة عن قيمة الانتظار، فرُبّ ساسة ينتفضون لكسر قضبان تفصل مئات آلاف اللبنانيين عن أرضهم وأهلهم. لكن الغربة، هي كالقوت والأمن والكهرباء، أحوال ناس، ولا تهمّ الشياطين.
في هذه الغربة، احترف العقل التنقل بين الانفصام والطغيان، وتعلّم أن يهجو الحنين بكل أوصاف الطيش وبأكثر القوافي فصاحة. لكن حنيني ليس طيشاً، ولم أشتق أبداً للدولة أو النظام، فجهنم عصّية على الشوق. اشتقت فقط إلى أن أرتب ذاكرتي من جديد وأتخلص من أحلام النهار وجمود الانتظار. اشتقت إلى أن أعيش في وطني!

 


 

  • شارك الخبر