hit counter script
شريط الأحداث

- المحامي لوسيان عون

الابنية المتصدّعة في عاصمتنا أشدّ خطراً من الالغام التي زرعها عدوّنا في أراضينا

الأربعاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٢ - 10:15

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

كانت لافتة جدّاً المقاربة الواقعيّة والقانونيّة التي تضمّنها القرار الصادر عن مجلس نقابة المحامين في بيروت يوم الجمعة الماضي والذي تمحور حول تداعيات ونتائجة الكارثة التي حلّت في شارع فسوح في الاشرفيّة على أثر انهيار المبنى المؤلف من سبع طبقات على رؤوس القاطنين فيه وهو بذلك وضع الاصبع على الجرح .
جاء هذا القرار بمضمونه وخلاصته ليدقّ ناقوس الخطر في وقت جاءت "المجزرة" التي حلّت في المنطقة لتشرّع الباب أمام سلسلة من الملفات التي حملت تراكمات لاهمال وفساد بدأ بالتفاقم قبل أحداث لبنان في العام 1975، واستمرّ حتى يومنا هذا.
وفي وقت كان لافتاً أيضاً الاجراء القضائي الذي صدر بحقّ مالكي العقار المنهار والذي خلص الى توقيف هؤلاء، علماً أنّ إصدار مذكرة التوقيف الوجاهيّة غالباً ما لا تأتي إلا بعد استجواب المشتبه به، وبعد أن تحوم الشبهات حوله. فثمّة أسئلة تطرح اليوم عمّا إذا كان هؤلاء – وفي حال ثبوت تورّطهم في أيّ إهمال كان – هم وحدهم مسؤولين عن انهيار المبنى، فيما عشرات العوامل المتراكمة تجمّعت منذ تاريخ تشييده وحتى يومنا الحاضر ممّا يحمل شبهات شتّى حول ما اذا كان المالكون - ومع هول الازمة التي يقعون فيها ولا سيما إن كانوا من المالكين القدامى – هم من يهدّدون بيروت وضواحيها اليوم، وسائر المناطق اللبنانيّة، كما أنّهم هم الذين حوّلوا أبنيتهم الى قنابل موقوتة أم أن العوامل التي تراكمت خلال الاحداث أم بعدها والتي خرجت عن إرادتهم هي التي أوصلت الحال المذرية الكارثيّة الى ما وصلت اليه.
طبعأً وجب التوقف بموضوعيّة حول هذه الاسباب لمعرفة من هو على صواب ومن هو على خطأ في تقاذف التهم وتسييس الحادثة الى حدّ توظيفها في الانتخابات والحملات الدعائيّة التابعة لها.
يعود بناء معظم الابنية القديمة في بيروت وضواحيها الى حقبة ما قبل الستينات، وهذه الابنية قد مرّ على تشييدها ما يناهز الخمسين عاماً وأكثر، وعمرها استنفد وفق ما تجمع عليه القوانين والانظمة العالميّة إذ أنّ الكثير من الدول ومن بينها دول الخليج ولا سيما الامارات العربيّة المتحدة تأمر بهدم الابنية التي فاق عمرها العشرين عاماً. والعلم يقضي بأنّ لكل مادة فيزيائيّة درجة معيّنة من الصلابة والمناعة ضد العوامل الطبيعيّة والكسر وضغط الاجسام وسواها، من بين هذه المواد الترابة والباطون المصنوع منها والحديد وهي المواد التي تشكل الدعامات الرئيسيّة في الابنية المنشأة في لبنان خلال القرن المنصرم.
من هنا، ونظراً لتعرّض هذه الابنية لعوامل الاهتراء وبالتالي التصدع وانخفاض مستوى الصلابة (صلابة الاجسام) مضافأً اليه مفاعيل القذائف التي أمطرت البلاد خلال خمسة عشر عامأً ومن بينها الثقيلة منها فضلاً عن مفاعيل المتفجرات التي كانت تزرع بين الاحياء، عدا الفساد الذي تغلغل بين الاصقف والجدارن عند تشييدها بحيث تم تمرير مئات الآلآف من المخالفات خلال تشييدها مقابل حفنة من الاموال، ناهيك عن عجز المالكين القدامى عن اصلاح أبنيتهم واجراء الصيانات الضرورية لها طالما أنّ معظمها كان مردوده لا يجني طوال عشرات السنوات ما يساوي بدل إصلاح سقف واحد منها.
وهكذا، كانت المآسي تتراكم، مقابل تمسّك كان يبديه المستأجر أكثر فأكثر بالمأجور الذي كان يشغله، بحيث أن اشغاله مقابل مئة الف أو مئتي الف في السنة يعتبر لدى معظم المستأجرين ورقة يانصيب ونعمة من الله، فيما الصلاة والسجود كانا يتواصلان طوال الحقبة الماضية مع تضرّع الى الله بانكفاء مطلوب من قبل نواب الامة وعدم تصحيح الخلل الحاصل واصدار قانون عصري للايجارات يرضي الطرفين ويحلّ معضلة عمرها واحد وسبعين عاماً أجبر خلالها المالكون القدامى على تمديد الايجارات قسريّاً بغطاء شرعي مئة في المئة بعدما تحوّل حقّ التمديد الى حقّ توريث أحفاد المستأجرين لمأجور الجدود والجدّات ببدلات بخسة وهي مفارقة لم يشهد لها أيّ قانون في أكثر البلدان تخلفاً.
إزاء هذا القانون المجحف حقاً، كان مستأجرون يلحسون المبرد، وأنا واحد منهم وما أزال حتى الساعة، فقد ورثت عقد ايجار نظمه والدي رحمه الله، وكانت ربما ساعة خير، لكن في المقابل، كان مبرد "بوجههين" ينتظرني إذ أنّ العائلة تمتلك بناية قديمة العهد في منطقة البوشرية يشغلها مستأجرون بثمن "ربع امبير" من اشتراك مولد شهريّ... وهذه مفارقة مضحكة مبكية للاسف، شغلها الاجداد، ومن بعدهم أولادهم ومن بعدهم أحفادهم وهم يستعدّون ليوصوا بحقوقهم "الطارئة" الى أولادهم وأحفادهم من بعدهم في مهزلة لم يسبق لها التاريخ، وأبلغ تعبير عن الوضع القائم بل أطرفه ما أتلفظ به لدى رؤية أحد المستأجرين فأقول له "البيت بيتك"...
سؤال أطرحه على نفسي في خضمّ هذا الخطر الداهم والمحدق الذي يهدد لبنان: لو كان الايجار في لبنان متروكاً للعرض والطلب، وكان بدل ايجار أيّ من الشقق التي انهارت على رؤوس قاطنيها في فسّوح ثلاثمائة دولار أميركي شهرياً، فهل بقي أيّ من الذين قضوا في الكارثة للحظة واحدة ينتظرون الموت؟ أم انتقلوا الى شقق أخرى تستوفي شروط السلامة العامة؟
في هذا المجال أستذكر يوماً كان فيه الرئيس نجيب ميقاتي وزيراً للاشغال العامة في نهاية التسعينات من القرن الماضي فطلب على اثر زلزال لبنان الشهير معاينة الابنية المتصدعة والتأكد من سلامتها، عندها بادرت الى تكليف خبير محلف لمعاينة بناء قديم في منطقة فرن الشباك والوقوف على متانته وسلامته، فكانت خلاصته أن لا خطر محدق عليه انما معرض للانهيار بسبب قدمه، فتوجهت على اثر صدوره بانذارات الى سائر المستأجرين القدامى الذين يشغلوه في حينه، لكنني فوجئت بنتيجة مذهلة اذ ووجهت بسيل من الانتقادات من قبل معظم هؤلاء الذين اتهموا موكليّ المالكين بالاحتيال على القانون واستثمار تداعيات الزلزال لاخلاء شققهم، فيما بادرني أحدهم بالقول : "أنا باق هنا وسوف أقضي تحت هذا السقف ولن أخلي شقتي".
وقائع تختصر أزمة حقيقية وطريقاً مسدوداً أمام حل معضلة اجتماعية وسكنية ، فيما لا المستأجر قادر على شراء مسكن اليوم، ولا الدولة قادرة على بناء مجمّعات سكنيّة شعبيّة تأوي المستأجرين القدامى، ولجنة الادارة والعدل تتعرّض لضغوط شتى تعيق حسم أمرها والانتهاء من اقرار مشروع قانون لاحالته الى الجمعيّة العامة للمصادقة عليه واقراره، فيما الانتخابات النيابيّة على الابواب وثمّة "مادة دسمة" لتفعيل "البازار الجديد" القادم في العام 2013، وها هي كارثة فسوح تدعو سائر السياسيين والمرشحين والطامحين الى ساحة المنازلة حيث مسرح الكارثة، في وقت تسابق الكثير من "الغيارى" أمام عدسات الكاميرات في سباق محموم حول مسابقة "من طالب أكثر من سواه بحقوق أهل الضحايا" فلا نجدنّ أحد منهم استضاف أياً من المنكوبين في دياره العامرة من قصور وفيللات وشقق فخمة، كما لم نسمع عن أحدهم - وهو حقاً يستحق جائزة نوبل اللبنانية في مساعدة المنكوبين - زار سراً المنطقة بعيداً عن عدسات الكاميرات، أم ساعد مادياً وسراً أياً من أهل الضحايا.
في أي حال، سقط مبنى على رؤوس قاطنيه، لكن على ما أعلن النائب قباني رئيس لجنة الاشغال النيابية، هناك عشرين ألف مبنى في بيروت وضواحيها ينتظر كارثة مماثلة، وهذا ما يتطلب اسراعاً من قبل كل من السادة النواب لسن تشريع في اقرب وقت ممكن لحل معضلة لا يتحمل أيّاً من المالكين القدامى نتائجها للاسباب التي تقدم ذكرها سيما وأن أبسط عملية تدعيم لاي مبنى يخشى سقوطه تكلف ما يفوق المئة الف دولار أميركي، ومعالي السادة الوزراء ولا سيما وزراء الاشغال والداخليّة والبلديات في اتخاذ كافة الاجراءات الضروريّة أولاً لاجراء مسح شامل من قبل البلديّات والتنظيم المدني والدفاع المدني لكل الابنية القديمة ورفع الجردة الى كافة المراجع والادارات المعنيّة المختصّة بغية اتخاذ سائر الاجراءات بالتنسيق مع المراجع القضائيّة المختصة لدرء أية مفاعيل لعمليات سقوط محدقة في أيّ من المناطق مع ضرورة الاستعانة بخبراء ومهندسين محليين ودوليين على هذا الصعيد لا سيما من بينهم أولئك الذين يمتلكون خبرة في الدول التي تشهد باستمرار زلازل وأعمال اغاثة من بينها على سبيل المثال الولايات المتحدة واليابان وتركيا.
عسى أن يكون ما وقع بالامس القريب في فسوح عبرة، كي لا يتكرر بعد اليوم ما حصل، حقناً للدماء الذكيّة والبريئة، أما بعد فلن يكون أيّ مسؤول بمنأى عن تحمل تبعات كوارث مماثلة لأنّ التقاعس والفساد في انتشار عامودي وأفقي، وقد حان الوقت أن يزيل لبنان من خريطته أبنية تحوّلت بفعل العوامل التي أسلفنا ذكرها الى ألغام ضخمة مزروعة في أحيائنا وشوارعنا أكثر خطرأً بكثير من التي زرعها عدوّنا في أراضينا وحقولنا.

  • شارك الخبر