hit counter script

- داني حداد

من المطار... عالمطار

الإثنين ١٥ كانون الثاني ٢٠١٢ - 07:31

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

حان أوان العودة. لم أعد أستطيع أن أزيل هذه الفكرة من رأسي. بات صوت فيروز يسكن في أذنيّ على مدار الساعة. راحت مشاهد الطفولة تحضر أمامي سريعاً. هو الحنين الذي دفعني أخيراً الى العودة والاستقرار في لبنان، بعد غربة سنوات عن هذا الوطن. لم يتمكّن البُعد من صنع جفاءٍ مع أرض الوطن وأهله. كان القرار سريعاً، وكلّ ما بعده كذلك. حزمت الحقائب واستقلّيت الطائرة الأولى وها أنا على أرض بلادي.
كانت الشمس غابت عن بيروت. كان المشهد واضحاً من فوق فيما الطائرة تستعدّ للهبوط. أضواء قليلة يمكن ملاحظتها على المساحة الجغرافيّة القريبة من المطار، وكأنّ الناس ناموا باكراً جميعاً، على الرغم من أنّ الساعة لم تتجاوز التاسعة ليلاً. هل هذه هي بيروت التي لا تنام؟
أخرج من المطار. روح الضيافة اللبنانيّة التقليديّة ما تزال حاضرة، فالعتّالون تسابقوا على مساعدتي على حمل حقائبي، إلا أنّني آثرت تولّي ذلك بنفسي. كان صديقي في انتظاري خارجاً، بعد وصوله متأخراً بسبب زحمة سير ناتجة عن تحويلٍ مفاجئ للسير كما قال.
سلكنا طريق العودة، إلا أنّنا لم نكد نسير دقيقة واحدة في السيّارة حتى فوجئنا بشبّان يقطعون الطريق حاملين عجلات راحوا يشعلونها. "رجعوا لورا" صرخ أحدهم فينا. كان شابّاً نحيفاً أخفى عينيه وجزءاً من وجهه بوشاح أسود. اضطررنا الى الاستدارة ورحنا ندخل في زواريب اعترف صديقي مسبقاً بأنّه لا يعرفها، "ولكنّنا لن نضيع" قال.
من طريق المطار الى شارعٍ داخليّ، ومن شارعٍ الى آخر وصلنا الى مكانٍ سألنا أحد المارّة عن اسمه، فأجابنا بلهجة بيروتيّة "هون الطريق الجديدة". تابعنا السير، ونحن نلمح على مدخل كلّ حيّ مجموعة شبّان تقف في العتمة. بعضهم يدخن وبعضهم جلس على كراسٍ بلاستيكيّة وهو يدخّن النارجيلة. كنّا نسمع بعضهم يتحدّث بصوتٍ عالٍ، إما في السياسة أو في كرة القدم، ويشتم في الحالتين. لمحنا أيضاً أصحاب ذقون متدلية وقد ارتدى بعضهم العباءات. كان المشهد مرعباً فعلاً، واللافت أنّه كان كذلك لصديقي الذي لم يترك أرض الوطن يوماً.
وصلنا أخيراً الى جسر البربير. لم أعرف ذلك إلا حين أخبرني صديقي، فالجسر تغيّر كثيراً. شعر صديقي بارتياحٍ بعد أن تُهنا لدقائق. أشعل الراديو، ربما بحثاً عمّا يزيده ارتياحاً، فإذا به يثبّت الموجة على برنامج سياسي جمع نائبين لم أعرفهما فوراً، بعد سنوات من عدم المتابعة لأخبار السياسة في لبنان. عرّفني صديقي على المتحاورين بأسمائهما وبصفة كلّ منهما: فلان نائب عونيّ، وفلان نائب قوّاتي. لم يكد ينهي صديقي التعريف حتى ارتفع صراخ النائبين، ومعهما صراخ المذيع محاولاً التهدئة، وكلّما فعل ذلك زاد صراخهما أكثر، وإطلاق كلّ منهما الاتهام بحقّ الآخر بلهجة بدأت قريبة من السخرية وانتهت بما يلامس الشتائم. وراح صديقي يصرخ ويشتم هو الآخر، من دون أن أعرف أيّ وجهة نظر يؤيّد...
وصلت أخيراً الى المنزل العائلي. "ألم تعلم أهلي بمجيئي؟" سألت صديقي فوراً حين رأيت أنّ الأنوار مطفأة في المنزل، فأجابني بأنّ الكهرباء مقطوعة، وثمّة عطل في المولّد يجري العمل منذ السادسة مساءً على إصلاحه. دخلت المنزل، عانقت الأهل ثمّ جلست أحاول تلمّس ملامحهم وما تغيّر فيهم على ضوء الشمعة...
إنّ ما سبق قراءته مجرّد قصّة وهميّة لم تحصل معي يوماً، ولكنّها، للأسف، تحصل مع آخرين على الأرجح. أمّا المؤسف أكثر فهو احتمال حصولها بطريقةٍ معكوسة، أي أن يمضي أحدهم ليلته الأخيرة مع ذويه على ضوء الشمعة ثمّ يتوجّه الى المطار ليغادر لبنان على وقع صراخ السياسيّين ويتأخر عن موعد الوصول بسبب إقفال طريق المطار احتجاجاً، ويتوه في بعض شوارع بلاده قبل أن يصل الى الطائرة ليغادر لبنان غير آسف. إنّه الأسف بذاته!

  • شارك الخبر