hit counter script

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - داود الفرحان - الشرق الاوسط

ابحث عن إيران... ولو في الصين

الثلاثاء ٢٨ كانون الثاني ٢٠٢٠ - 07:17

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يتذكر الصينيون باحترام تاريخ عقود الفقر والعوز والتقشف، في عهد الرئيس الراحل ماو تسي تونغ، فهذه تضحيات آبائهم وأجدادهم التي تستحق الإجلال وليس المعايرة. المهم أين كان الصينيون وكيف أصبحوا. بلدهم ثالث دولة تهبط مركباتها على القمر بعد الولايات المتحدة وروسيا. السياح الصينيون يحتلون المرتبة الأولى بين أعداد السياح في العالم. أكبر عدد من المليارديرات في العالم صينيون، وليسوا أميركيين أو خليجيين أو هنوداً. أكثر من نصف مليار صيني يستخدمون الإنترنت. 750 مليون شخص يستخدمون الهواتف الجوالة.

في السبعينات من القرن الماضي، أوفد العراق رجل الدين واللغة وخطيب وإمام جامع الخلفاء في بغداد، الشيخ جلال الحنفي - رحمه الله - إلى بكين، لتعليم الصينيين اللغة العربية، فعاد الحنفي إلى بغداد بعد عامين، وقد تعلم اللغة الصينية من دون أن يتعلم أحد من الصينيين لغة الضاد!

بدأ الانفتاح الصيني على العالم الخارجي منذ تواري شعارات الثورة الثقافية الصينية، عقب وفاة ماو تسي تونغ في عام 1976. وصار آلاف الصينيين يحجُّون، أو «يهجُّون»، كل يوم إلى عدوهم «اللئيم»، كما كانوا يصفونه: الولايات المتحدة.

وميزة الصينيين المهاجرين عن غيرهم أنهم حافظوا على هويتهم الوطنية، وثقافتهم التقليدية، وعلاقاتهم الأسرية. وبينما ثلاثة أرباع الأطفال العرب الذين ولدوا في الولايات المتحدة وترعرعوا وشبوا وتزوجوا لا يعرفون كلمة واحدة في اللغة العربية، فإن أقرانهم الصينيين يتحدثون لغة بلدهم الأم بطلاقة، والسبب أن رواد الهجرة الصينيين أقاموا مدارسهم الابتدائية في وطنهم الجديد، لتعليم أولادهم لغة الآباء والأجداد وتقاليدهم وموروثاتهم. وتدريجياً صارت هناك مدن، وليست مدينة واحدة، تحت اسم «الأحياء الصينية» في معظم الولايات الأميركية. وهي أحياء ثرية بكل مقومات الحياة، ما جعلها قبلة أنظار السياح الأميركيين والأجانب الذين يتوقون إلى اكتشاف عجائب بلد السور العظيم. بل إن نيويورك تضم بدل الحي الواحد أربعة أحياء صينية، يتجاوز بعضها مساحة حي مانهاتن. وكل الأحياء الصينية في الولايات المتحدة وسنغافورة وأستراليا وماليزيا وكندا، وغيرها، يمكن أن تغنيك عن زيارة الصين، إذا لم تكن مهتماً بزيارة السور العظيم، أو التعاقد على استيراد أرخص أنواع الصناعات الصينية.

هذا البلد يكتسح العالم بالتجارة والاقتصاد، كما فعلت اليابان قبله، وليس بالصواريخ والطائرات القاذفة كما فعل الروس في سوريا. الصين تبني أحياءً مسالمة في مدن العالم، والروس يبنون قواعد جوية وأرضية وبحرية، مع أن الدولتين تعتنقان النظام الشمولي أو ما تبقى من الشيوعية. وبينما لا يكف الرئيس الصيني شي جينبينغ عن الابتسام والضحك داخل بلاده وخارجها، يبخل علينا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بابتسامته الساحرة، ولا نرى منه إلا العين الحمراء والعضلات المفتولة.

في يوم ما كان على الصينيين أن يحفظوا «عن ظهر قلب» الكتاب الأحمر الذي أصدره ماو تسي تونغ. وكانت خير هدية في المناسبات والأفراح الصينية نسخة من هذا الكتاب الصغير، الذي كانت السفارات الصينية في دول العالم توزعه في الستينات من القرن الماضي مجاناً على الأجانب من أمثالنا، مع حفنة من الفستق الصيني اللذيذ!

ومن القصص التي يرويها كتاب: «ذكريات الصين: تاريخ غير تقليدي» للكاتب تشين يو، أن النيران اشتعلت ذات يوم في منزل رجل صيني، فبادر على الفور لإنقاذ نسخة من الكتاب الأحمر، بدلاً من أثاث المنزل! ومنع النظام الصيني في الستينات النساء من استخدام أحمر الشفاه؛ لأنه سلعة «بورجوازية إمبريالية تزيف الواقع»! وأمر النظام الأطباء الجدد بالخدمة في الأرياف حفاة الأقدام، أسوة بالفلاحين، ولم يتوقف العمل بهذا الإجراء إلا في عام 1985؛ حين نشرت صحيفة «الشعب» الناطقة باسم الحزب افتتاحية دعت فيها إلى تزويد الأطباء الجدد بالأحذية!

في كل يوم يقول البشر لبعضهم في الصباح: صباح الخير، إلا في الصين؛ حيث يقول بعضهم لبعض: «هل اشتريت منزلاً؟» فيرد عليه الآخر: «نعم (أو أحاول) شكراً، هل اشتريت أنت؟». فالمنزل هو منتهى أحلام المواطن الصيني.

وكان افتتاح مقهى أميركي شهير في بكين في التسعينات حدثاً لا يُنسى. ووقف الصينيون في طوابير طويلة أمام أكشاك بيع قناني المياه الغازية الأميركية. وحين افتتح أحد المطاعم الأميركية أول فرع له في بكين، كان الناس عندما ينتهون من تناول الطعام يأخذون العلب الكرتونية والأكياس الورقية التي تحمل اسم المطعم، ويعلقونها على جدران منازلهم، ليعرف ضيوفهم أنهم أكلوا في مطعم أميركي!

للمطربة المصرية الراحلة ليلى مراد، أغنية شهيرة هي «كلام جميل وكلام معقول، ما أقدرش أقول حاجة عنه»؛ لكن الكلام غير الجميل واللامعقول هو الاتفاقيات الثماني التي تم توقيعها في بكين في الخريف الماضي، خلال زيارة عادل عبد المهدي، رئيس حكومة تصريف الأعمال العراقية. لقد بدأت تتسرب إلى الإعلام يوماً بعد يوم خفايا تلك الاتفاقيات التي تشمل مجالات أمنية واقتصادية واستثمارية، بقرض صيني يصل في نهاية فترة تنفيذه خلال عشرة أعوام إلى 500 مليار دولار، تُستقطع شهرياً من النفط العراقي المصدر بمعدل 100 ألف برميل يومياً، لتسديده بالسعر الحالي للنفط، مهما ارتفع سعره في السنوات المقبلة. والمشكلة ليست هنا فقط؛ لكنها مصيدة لثروات العراق، يتم استنزافها عبر الصين لصالح إيران المكبلة بالعقوبات الأميركية. فطهران تبحث من خلال بغداد عن شوارع خلفية، ولو في الصين.

إنه نوع من غسل الأموال الذي ساد العلاقات المالية بين البنكين المركزيين العراقي والإيراني في السنوات الأخيرة، لدعم الاقتصاد الإيراني المنهار، سواء عن طريق تولي العراق تمويل التدخل الإيراني في سوريا واليمن ولبنان والعراق نفسه، أو دعم الخزينة الإيرانية الخاوية بعد توقف صادرات النفط الإيراني. ما المانع في أن يبيع العراق إلى الصين 100 ألف برميل أخرى يومياً لصالح إيران؟ فعادل عبد المهدي تحرك إلى الصين بتوجيه إيراني أيام قاسم سليماني، لتشجيع بكين على كسر الحصار الأميركي على طهران، وشراء النفط الإيراني بسعر مخفض، والبحث عن نقاط ضعف في العقوبات الأميركية يمكن التسلل عبرها، ولو عن طريق العراق، وليس طريق الحرير.

تروّج حكومة عبد المهدي للاتفاقيات العراقية – الصينية، على أنها ستبني موانئ (وكأن العراق دولة بحرية) ومطارات، ومستشفيات، ومدارس، ومجمعات سكنية، ومترو أنفاق، وبنى تحتية، في كل المحافظات. وكل من قرأ ما تسرب من معلومات يكتشف أن عبد المهدي شاهد في بكين أحلاماً وردية، تشبه أفلام والت ديزني، بينما الميزة الوحيدة التي حققها الوفد العراقي هي زيارة سور الصين العظيم!

كل الاتفاقيات العراقية الدولية يجب أن تعرض في مجلس النواب، ويوافق عليها، استناداً إلى الدستور القائم، إلا هذه الاتفاقية؛ حيث تم البدء في تنفيذها فوراً باستقطاع 100 ألف برميل يومياً لحساب الصين، من دون أن يعرف أحد ما هي آليات تنفيذ بنود الاتفاقيات، وما هي المشروعات ومواقعها وتخصيصاتها.

يؤكد أستاذ علم الاقتصاد في جامعة البصرة، الدكتور نبيل جعفر المرسومي أن: «الاتفاقيات تفاقم المديونية الخارجية العراقية، وتزيد أعباءها على الاقتصاد العراقي المثقل بالديون، التي تصل حالياً إلى تسديد عشرة مليارات دولار سنوياً لخدمة الديون». وتنفذ الاتفاقيات شركتان صينيتان حصراً، من دون وجود أي منافسة دولية. وليس هناك أي ضمان يمنع الشركتين من إحالة المشروعات إلى مقاولين محليين لا يملكون أي خبرة، باستثناء توزيع الرشى في إطار الفساد العام في العراق.

الخلاصة: أن هناك شبهات كبيرة تحيط بهذه الاتفاقيات، يتحمل مسؤوليتها الجانب العراقي؛ لأن الصين تبحث عن مصالحها، وعن دول تحتاج إلى مساهمتها في العلاقات الاقتصادية الدولية. ولأن مجلس النواب الحالي لا يملك أي حيلة في الوضع المضطرب والمتفجر في العراق، فإن الصين مدعوة من جانبها إلى التأكد من عدم كون هذه الاتفاقيات خارج الشرعية والقوانين العراقية والدولية.

من حق الصين أن تنتشر اقتصادياً في كل دول العالم، وليس مثل إيران التي تنتشر ميليشياوياً في بعض دول المنطقة؛ لكن ليس من مصلحة الشعب الصيني الصديق ولا الشعب العراقي، أن يتم توقيع اتفاقيات ما زالت سرية، للتعاون الثنائي مع حكومة مستقيلة، لاستنزاف ثروات العراق بمشروعات على الورق، وديون بالعملات الصعبة، تستغرق فترة تسديدها أكثر من نصف قرن.

خلال المد الشيوعي في العراق، بعد ثورة 14 يوليو (تموز) 1958، كنا نذهب إلى دار سينما في بغداد لنشاهد ثلاثة أفلام صينية، بتذكرة واحدة سعرها 50 فلساً. لدينا دعوة اليوم لمشاهدة فيلم صيني واحد بسعر 500 مليار دولار!
 

  • شارك الخبر