hit counter script

ليبانون فايلز - مقالات مختارة مقالات مختارة - سوسن الأبطح - الشرق الاوسط

ماكرون: هذه الكنيسة لي!

الجمعة ٢٤ كانون الثاني ٢٠٢٠ - 07:19

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

انتفض العنفوان في روح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بعد جولة له في القدس القديمة، حيث عرّج على حائط المبكى، وساحة المسجد الأقصى، وتحدّث الى السكان، سأل عن أحوالهم، واستعاد تاريخ بلاده في هذه الأرض، وتذكر مجد الحملات الصليبية وحروبها الطويلة والمكلفة. ليست كل هذه الأحداث بسهلة لمن يدرك أهميتها. فقد تمعن ماكرون في الحجارة والبيوت والأزقة، وهو يعرف أن لأجداده عند كل زاوية هنا قصصاً وجولات، ونفوذاً تأرجح بين مدّ وجذر، فيما لا تملك فرنسا اليوم، لهذه البلاد أكثر من بعض النصائح، والكثير من التمنيات، وبعض الملكيات التي تعض عليها بالنواجذ.

بعد جولته «الروحانية» التي استمرت ساعتين، أرادهما لمتعته وتأمله، شعر ماكرون بتأثر شديد، ووصل إلى كنيسة «سانت آن» التي لا تزال ملكيتها لفرنسا، مملوءاً بالزهو وقد أخذته النشوة، ليُخرج كل ما يكتنزه من اعتزاز وطني في وجه الحراس الإسرائيليين الذين حاولوا مرافقته إلى داخل الكنيسة، غير آبهين للبروتوكولات المعتادة. انفجر الرئيس غضباً، استشاط وصرخ في وجوههم، وطرد الحراس وأغلق خلفهم الباب. «اخرجوا من هنا. جميعنا نعرف الأصول. هكذا كانت منذ مئات السنين، ولن يتغير الأمر معي. يجب أن لا يستفز أحدنا الآخر». قبل ماكرون بثلاث وعشرين سنة، كان جاك شيراك قد قام بالجولة نفسها في المدينة المقدسة، وعلى الأرجح أن ماكرون أحب أن يسير على خطى مواطنه، ويعيش تجربته، وربما أن يسجل ردة فعله ذاتها التي كان لها في حينه، صدى مدوٍ لم يُنس إلى اليوم. وشيراك حين وصل إلى الكنيسة، دخل معه الحراس أيضاً ولم يتوقفوا عند الباب احتراماً للقواعد المتعارف عليها، فما كان منه إلا أن سألهم إن كان يتوجب عليه أن يعود ويستقل طائرته، شارحاً بطريقة غير مباشرة، أنه يرفض أن يكمل زيارته بحضورهم.
لم يأسف ماكرون على غضبته، بل بدا لأنه سعد بها وتقصدها بحضور صحافي كثيف. فهي بالنسبة له مناسبة لإعادة تذكير العالم كله لأن فرنسا لها أملاك هنا، وسلطة لا تزال تحتفظ بها، وأماكن ترعاها في قلب القدس، تمارس سلطتها عليها، ومجموعات دينية تعتبر نفسها مسؤولة عن أمنها، وممارسة شعائرها بحرية.
إضافة إلى كنيسة «سانت آن»، لفرنسا كنيسة «باتر نوستر» في جبل الزيتون، وهي من أقدم الكنائس في الأراضي المقدسة، كما «القيامة» و«المهد»، ويقال إن فيها علّم المسيح تلامذته الصلاة، وهي معروفة بمغاورها الثلاث ذات القيمة الدينية الاستثنائية. هذا إضافة إلى صرح ثالث هو «القيادة الصليبية القديمة» لأبو غوش، وما يعرف باسم «قبور السلاطين» شرق القدس. وهي مجموعة من الصخور المحفورة في الصخر كمقابر، نقب عنها الفرنسيون وعثروا عليها عام 1863، وتعتبر من بين القبور الأثرية الأكثر جمالاً. وهي من المواضع التي أثارت حساسيات لدى اليهود الذين يدعون أنها تعنيهم دينياً، وكادت تشعل نزاعاً مع الفرنسيين.
في كلتا الحالتين، كان شيراك وماكرون يعرفان أن الكاميرات ترصدهما، وأنهما يسجلان موقفاً وطنياً له جذوره الممتدة في الدور الديني والسياسي العريق الذي لعبته بلادهم في هذه المنطقة الحساسة من العالم. وهي مواقف تدغدغ كبرياء الفرنسيين، وتذكّر الآخرين بعظمة أمجادهم، وبأن هذا التاريخ لا يزال حاضراً وحياً. والدليل على ذلك، أن فرنسا تخصص لهذه الأملاك الأثرية الدينية التي ترعاها برموش العين، قنصلاً يعنى بها منذ أكثر من 150 سنة، وتتكلف عليها بسخاء لترممها وترعاها وتصونها. فهي إرث يرجع بجذوره إلى أيام الحروب الصليبية، وفي ملكيته إلى القرن التاسع عشر. ويحضر القناصل الفرنسيون الاحتفالات الدينية، ولهم لباس تقليدي يتزيون به، ويعتبرون أن لهم دوراً سياسياً ودينياً، وأنهم يؤمنون استمرار وجود المسيحيين في هذه البقعة الحساسة، رغم الهجرات المتتالية التي خفضت عددهم بشكل كبير.
تمددت فرنسا في عمق الدولة العثمانية، لأسباب كانت تتغير مع تبدل الظروف، لكن النتيجة تبقى واحدة، وهي تسجيل النقاط وتعزيز الوجود؛ مرة بحجة حماية الحجاج المسيحيين الآتين إلى الديار المقدسة، وتارة أخرى من أجل حماية الأقليات خشية عليهم من الاضطهاد. وقد تقضم أرضاً أو صرحاً أو دوراً من باب تبادل الخدمات والمصالح. ومع تقدم الوقت كانت فرنسا تعقد الاتفاقيات التي تنظم حضورها، ومنها ما بقي ساري المفعول إلى اليوم، رغم احتلال فلسطين، كتلك التي تجعل من الأماكن التي تحدثنا عنها أراضي فرنسية في فلسطين تمارس كامل سلطتها عليها.
حين سئل ماكرون إن كان قد ندم على انفعاله وتسرعه، فقال: بالعكس. جيد أن نذكّر بالدور الذي لعبته فرنسا هنا، ونضع حدوداً، بحيث يعرف كل شخص الحد الذي يجب أن يتوقف عنده.
يأتي رؤساء فرنسا خصيصاً إذن، ليؤكدوا أن هذه الأماكن التي لا هم بنوها ولا أسسوا لها، بل اقتنصوها وحصلوا على امتيازات عليها، بفعل القوة والسطوة وربما المال، مع أنها تبعد آلاف الأميال عن بلادهم، ويعيش الفلسطيني لاجئاً حتى وهو على أرضه ومهدداً ولو بقي في بيته، ولا يحق له أن يطلق صرخة.
 

  • شارك الخبر