hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - الدكتور أنطونيوس أبو كسم محامٍ دولي وأستاذ جامعي

أموال لبنان المنهوبة في الخارج: الأليات القانونية لاستعادتها

الأربعاء ٦ تشرين الثاني ٢٠١٩ - 06:24

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

بعد الاستفاقة المفاجئة والمتأخرة لمكافحة الفساد والفاسدين والمفسدين والمطالبة برحيل أركان السلطة، برز مطلب استعادة الأموال المنهوبة كعنوان شعبويّ. حتى تاريخه، لم يصر إلى أيّة مكافحة جديّة للفساد بل حملات موسميّة تأخذ أبعاداً سياسية، حيث لم يتم مؤخراً تجريم أي مسؤول سياسي أو إداري أو عسكريّ بتهمة الفساد بالرغم من بعض المحاكمات التي انتهى أغلبها بتبرئة المتهمين. بالرغم من نشر وثائق بنما في العام 2016 وتسريب وثائق ويكيليكس، التي فضحت حسابات مسؤولين لبنانيين لدى مصارف دول أجنبيّة يضاف إليهم رجال أعمال ومصرفيين شركاء في مشاريع الحكومات المتعاقبة، لم تجرؤ أيّة حكومة أن تحاول مساءلة هؤلاء أو إجراء تعقّب أو تحقيق ليبنى على الشيء مقتضاه. قدّمت إحدى الكتل النيابية مؤخرا اقتراح قانون لاستعادة الأموال المنهوبة، وطرح المجتمع المدني بعض الأفكار، إلا أنّه لا يعالج استعادة الأموال المنهوبة والمودعة لدى مصارف في الخارج حيث الثروات الحقيقية للمسؤولين اللبنانيين وشركاءهم، حيث قدّرتها وزارة الخزانة الأميركية بـ800 مليار دولار ("واشنطن بوست"). فحسب البنك الدولي، إنّ الأموال التي تمّ استيلاءها بواسطة الفساد من قبل رسميّين والتي ترحّل إلى الخارج تصل إلى 40 مليار دولار سنوياً. وعليه، يجب الركون إلى القانون الدولي لاستعادة هذه ا لأموال في الخارج. 

تجدر الإشارة، إلى أنّ هناك عدّة أسباب لإيداع هذه الأموال في الخارج: في الحالات الطبيعية، إيجاد ملاذ آمن ونظام مصرفي مستقرّ يحمي الثروات. أمّا في الحالات التي تشوبها الشبهات، فتتراوح ما بين التهرب الضريبي بشكل كبير، غسيل الأموال، وتهريب الودائع من البلد. وما يثير الشبهات، أنّ هذه الحسابات تعود لأشخاص تولوا السلطة أو حاليا في السلطة وحتى في مواقع لها علاقة في المالية العامة والنقد والقطاع المصرفي.

النظام القانوني اللبناني
فعلياً، إنّ النظام القانوني اللبناني يتضمّن تشريعات بخصوص الإثراء غير المشروع ومكافحة تبييض الأموال ومكافحة تمويل الإرهاب وحول تبادل المعلومات لغايات ضريبية بالمبدأ من شأنها الحدّ من الفساد، إلا أنّ المشكلة تكمن في تطبيقها والقيّمين على تنفيذها، ممّا يحتّم تعديلها. أمّا الأهمّ من ذلك، أنّ لبنان هو دولة طرف منذ 22 نيسان 2009 في اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد (UNCAC) التي دخلت حيّز التنفيذ في 14/12/2005 والتي تضمّ حالياً 186 دولة. إنّ هذه الاتفاقيّة تنصّ على "إرجاع الموجودات والتصرف فيها" وفقاً لآلية تعاون ملزمة للدول الأطراف.

الآلية التقنية لاسترجاع الأموال
إنّ الخطوة الأولى لاسترجاع أمولاً منهوبة أودعت لدى مصارف في دول أجنبيّة، هو إجراء تحقيق حولها وتتبّعها (tracing)، ويمكن أن يتمّ الأمر عبر هيئة التحقيق الخاصة (المنشأة بموجب القانون 44/2015). إنها عمليةّ تحقيق متشعّبة، يمكن لمؤسسة إنتربول المساعدة بهذا الصدّد عبر مبادرتها الجديدة بخصوص المساعدة في استرجاع الأموال المنهوبة.
تجدر الإشارة إلى أنّ القانون 44/2015، أعطى هيئة التحقيق الخاصّة صلاحية التجميد الاحترازي للحسابات، إضافة إلى صلاحية مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة لمصلحة الدولة والتي ثبت بموجب حكم قضائي أنها متعلقة بجريمة تبييض أموال أو تمويل إرهاب، أو محصّلة بنتيجتها ما لم يثبت أصحابها، قضائياً، حقوقهم الشرعية بشأنها.
يمكن لهذه الهيئة بموجب الفصلين الرابع والخامس من اتفاقية الـ UNCAC (تحديداً المواد 46، 50، 55 و56) أن تطلب التعاون الدولي بصدد إجراء التحقيقات وتجميد الأرصدة واسترجاع الأموال.
أمّا الخطوة الثانية، يجب صدور حكم قضائي مبرم عن محكمة لبنانيّة بخصوص هذه الأموال وعدم مشروعيّة مصدرها. لا يمكن الطلب من دولة أجنبية استرجاع الأموال المودعة لديها من دون صدور حكم قضائي. وللدولة اللبنانية أيضاً، إضافة إلى كلّ متضررّ مراجعة القضاء الأجنبي حيث مكان وجود الأموال لاستصدار قرار قضائي باستردادها.
أمّا الخطوة الثالثة، فيقتضي عقد اتفاقيات ثنائية ما بين الدولة اللبنانية والدول المودعة لديها الأموال، أسوةً بالاتفاقية الثنائية ما بين نيجيريا وسويسرا من أجل استرجاع أموالا من المصارف السويسرية. بخصوص الاتفاقيات الثنائية، يجب أن تشمل أيضاً استرداد الأموال العينية والممتلكات.

دور مجموعة البنك الدولي والأمم المتحدة
على خطّ موازٍ، أطلقت مجموعة البنك الدولي ومكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة (UNODC) في العام 2007 مبادرة استعادة الأصول المسروقة (STAR – Stolen Asset Recovery). تقضي هذه المبادرة إلى تعزيز الجهود الدولية لاستعادة أصول البلدان النامية المسروقة إلى جانب الحد من تدفق الأموال المنهوبة، من ضمنها، تقديم مساعدات تقنيّة للوصول إلى أماكن وجود الأموال المنهوبة وآليّة تحصيلها، كإصدار دليل بشأن الإجراءات الخاصة باسترداد الأموال المنهوبة. استجابةً لهذه المبادرة، قامت عشر دول بنشر أدلة توجيهيّة تشمل الأدوات والإجراءات الخاصة باسترداد الأموال المنهوبة السارية داخل كل منها: كندا، فرنسا، ألمانيا، إيطاليا، اليابان، الاتحاد الروسي، سويسرا، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة وجيرسي.

تجارب دولية
على صعيد التجارب الدوليّة لاستعادة الأموال المسروقة، هناك تجارب مشجّعة وأخرى غير مشجّعة. إنّ نجاح آليات استرجاع الأموال المنهوبة يعتمد على قضاء وطني قادر ونزيه، وعلى إدارة شفافة متطوّرة لها القدرة على إجراء المعاملات الخاصة باسترجاع الأموال المسروقة. إنّ آلية استرجاع الأموال المسروقة من دول أجنبيّة تتطلب سنوات، وليست بالأمر البسيط، ولذلك يتطلب الأمر استقراراً سياسياً واستمراريّة والتزاماً من قبل المؤسسات السياسية والإدارية، أي ألا تتوقف المسألة بمجرّد تغيير حكومي حيث ينقض بيان حكومي سياسة الحكومة السابقة.
هناك تجارب تتعلّق بتجميد أرصدة في الخارج (إجراءات سويسرا بخصوص أرصدة فرديناند ماركوس (الفلبين 1986)، الدكتاتور جان كلود دوفاليي (هايتي 1986)، فيكتور يانوكوفيتش (أوكرانيا 2014) و إدواردو كونها في قضية بتروبراس (البرازيل 2014) وغيرها. ففي أعقاب ثورات الربيع العربي، قامت سويسرا بتجميد ما يقارب من مليار فرنك سويسري مرتبطة بأسماء الحكام الذين تم إسقاطهم في ليبيا وتونس ومصر، إضافة إلى أرصدة الرئيس السوري بشار الأسد. وهناك تجارب أخرى إضافية نجحت باسترداد الأموال المنهوبة، ففي العام 1998، أعيدت أموال ماركوس بموجب اتفاق مع الحكومة الفلبينية الجديدة، يكفل استفادة ضحايا نظام ماركوس من جزءٍ من هذه الأموال. وقد تطلَّب الأمر صدور 60 قراراً قضائياً عن المحكمة الفدرالية السويسرية.
حالة استرجاع الأموال الأولى على المستوى الدولي بدأت بقضية موسى تراوري (مالي)، حيث تمّ تحويل 3,9 مليون فرنك سويسري إلى حساب الحكومة المالية ، حيث استغرقت العملية خمس سنوات فقط. أمّا التجربة الدولية الأنجح بحجم الأموال المستردّة، وبالرغم من أنها استغرقت حوالي السبع سنوات، كانت التجربة النيجيريّة. لقد أدّت إلى قيام الدولة السويسرية بتحويل مبلغ 321 مليون دولار إلى حساب الدولة النيجيرية، كجزءٌ من الأصول التي نهبها الدكتاتور النيجيري السابق ساني أباشا (1993-1998) والأشخاص المتورطين معه. بإشراف من البنك الدولي، يتمّ استخدام هذه الأموال لتمويل مشروع شبكة السلامة الاجتماعية الوطني القاضي بإتمام تحويلات نقدية للنيجيريين الذين يعيشون تَحت خَط الفَقر. يضاف إليها، التجربة الكازاخستانية، حيث أعادت الدولة السويسرية ما يعادل 115 مليون دولار من الأموال غير الشرعية التي اكتسبها سياسيون في كازاخستان بين عامي 2008 و2014. تضاف تجارب البيرو
كما وتضاف التجربة التونسية، فبعد الثورة لقد تمّ تشكيل اللجنة الوطنية التونسية لاسترداد الأموال بالخارج والمكتسبة بطريقة غير مشروعة برئاسة البنك المركزي؛ وقد تعاونت اللجنة مع وزارة العدل. نجحت تونس باسترداد حوالي 29 مليون دولار من حساب مصرفي بلبنان كان على ذمة ليلى الطرابلسي زوجة الرئيس المخلوع بن على. كما استعادت السلطات التونسية طائرتين ويختين، أحدهما كان محتجزاً بأحد الموانئ الإيطالية. كما نجحت في تجميد أرصدة وعقارات تابعة لعائلة بن علي في دول أوربية بواسطة سفاراتها في الخارج.

دور المجتمع المدني
أمّا التحدّي الأساسي لاسترجاع الأموال المنهوبة، فيكمن في كيفيّة ضمان توزيع الأموال المستردّة ليكون المواطنون هم المستفيدون من الأموال. وهنا يبرز دور المجتمع المدني كمراقب وكمساعدٍ في آن واحد. ففي الحالة النيجيريّة، تقود الشبكة الأفريقية للعدالة البيئية والاقتصادية رابط خارجي (ANEEJ) مجموعة من المنظمات غير الحكومية النيجيرية التي ستساعد في الإشراف على كيفية استخدام هذه الأموال. أمّا في حالة كازاخستان، أنشئت مؤسسة "بوتا" الخاصة للإشراف على إدارة تلك الأموال باستقلالية تامة من قبل مؤسسات رسمية، حيث تمّ تنفيذ آليّة توزيع الأموال من قبل منظمات غير حكومية محلية ، واستفاد منها أكثر من 200 ألف مواطن. في التجربة البيروفيّة، تمّ وضع كل الأصول المستعادة في صندوق خاص يسمى "FEDADOI" والذى يُدار من قبل مجلس مكون من خمسة أعضاء تم تعيينهم من قبل الوزارات.

إنشاء محكمة خاصة مستقلّة لجرائم الفساد
إنّ عمليّة استرداد الأموال المنهوبة من قبل شخصيات لبنانيّة منذ العام 1990 والموجودة في الخارج يتطلّب أولاً إنشاء جهاز قضائي مستقلّ. إنّ مجرّد إنشاء هيئة وطنيّة خاصّة لاسترداد الأموال المنهوبة، لا تلبّي المعايير الدوليّة في هذا المجال، خصوصاً لناحية صدور حكم مبرم ولناحية المحاكمة العادلة. فالأجدى إنشاء محكمة خاصة مستقلّة لجرائم الفساد، مؤلفة من محقّق عام (يعاونه عدد من القضاة المحققين) يجمع صفتي النائب العام وقاضي التحقيق وذلك لتسريع المحاكمات للمحقّق العام أن يستعين بمن شاء، وله أن يطلب من هيئة التحقيق الخاصة لدى مصرف لبنان رفع السرية المصرفية وتجميد الأرصدة. وتجري المحاكمات أمام غرف على مستويين (درجة أولى واستئناف)، على أنّ قراراتها لا تقبل النقض ولا أية طرق من طرق المراجعة. قضاة هذه المحكمة يجري انتدابهم من قبل مجلس القضاء الأعلى ومجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة لمدّة 4 سنوات غير قابلة للتجديد. اختصاص هذه المحكمة جرائم الفساد "الفظيعة" المنصوص عنها في القوانين اللبنانيّة (ضمناً، القانون 44/2015 وقانون الإثراء غير المشروع وغيرهم،...). إنّ إنشاء هذه المحكمة بقانون، يجب أن يتضمّن أيضاً تعديلات لبعض القوانين ليعاد توصيف بعض الجرائم من جنح إلى جنايات على أن تشدد عقوبات هذه الجرائم. والأهم أن تعدّل مهل مرور الزمن لهذه الجرائم لإمكانيّة ملاحقة جرائم ارتكبت منذ أكثر من عشر سنوات. تسقط الحصانات بمجرّد صدور قرار إتهام عن المحقّق العام. فيما خصّ الرؤساء والوزراء والنواب، إنّ الأمر يتطلّب تعديلاً دستورياً. تحال إلى هذه المحكمة القضايا بواسطة الشكاوى المباشرة أو عبر الإخبارات أو من قبل النيابات العامة الجزائية والمالية في حال عدم الصلاحية. تحكم هذه المحكمة بمصادرة الأموال المنهوبة وباسترجاعها إلى الدولة أو إلى الأشخاص أصحاب الشأن.

ورشة تشريعية لتعديل بعض النصوص وتحصين القضاء
فلا نجاح لآلية استرجاع الأموال المنهوبة من دون قضاء مستقلّ وآلية مستقلّة أيضاً. على مجلس النواب مواكبة هذه العمليّة عبر ورشة تشريعية لتعديل بعض النصوص وتحصين القضاء. إن مبدأ الشفافيّة يقضي بتعديل تشكيل هيئة التحقيق الخاصة، حيث يجب أن تكون مستقلّة فعلياً عن المصرف المركزي وألا تكون برئاسة الحاكم. إذ وحسب نصّ المادة السادسة من القانون 44/2015، كيف تنشأ "هيئة مستقلة، ذات طابع قضائي، تتمتع بالشخصية المعنوية، غير خاضعة في ممارسة أعمالها لسلطة مصرف لبنان" وبالتالي برئاسة الحاكم وعضويّة رئيس لجنة الرقابة على المصارف؟ كما ويقتضي تعديل نصّ المادة الرابعة عشرة بخصوص اقتسام الأموال التي جرت مصادرتها مع دول أخرى عندما تكون المصادرة ناتجة بصورة مباشرة عن تعاون ما بين السلطات اللبنانية و الجهات الأجنبية، إذ لا يجوز التنازل عن المال العام لصالح دولة أجنبيّة. يستعاض عن هذا النصّ بإبرام اتفاقيات ثنائية بخصوص النفقات والخسائر التي تكبّدتها دولة أجنبيّة جراء استعادة أموال لبنانية من مصارفها.
إذا لم يتولّى قضاء مستقلّ ومتخصّص مسألة استرجاع الأموال المنهوبة، سيتكرّر مع لبنان السيناريو المصري أو السناريو الكونغولي. بخصوص أزمة مصر، إنّ عملية استرجاع الأموال تحتاج إلى أحكام قضائية مبرمة، ولكن مع حملة العفو التي شملت مسؤولين في النظام الأسبق، تخوفت الدول الأجنبيّة (مكان إيداع الأموال) من إصدار القضاء المصري لأحكام سياسية غير قضائية. وأيضاً، فقبيل تجميد سويسرا للأموال التي نهبها موبوتو سيسي سيكو الرئيس السابق لجمهورية الكونغو الديمقراطية، كان من المستحيل إعادة هذه الأصول بسبب عَجز مؤسسات الدولة وضُعف المساعدة القانونية المُتبادلة بينها وبين سويسرا. هذه الإخفاقات أدت إلى إقرار سويسرا "قانون دوفاليي" (Lex Duvalier) سنة 2011 وقانون آخر سنة 2015، للسماح للسلطات بإعادة الأموال حتى في ظل مثل هذه الظروف.
هل إنّ لبنان (مسؤولين ومؤسسات رسميّة وخاصة) مهيئ لإطلاق عملية استعادة الأموال المنهوبة من الخارج ولتحمّل المسؤولية كاملة؟ 

  • شارك الخبر