hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - الدكتور أنطونيوس أبو كسم

إشكالية السِّلم الأهلي بوجه العدالة: عقد اجتماعي سياسي جديد قائم على العدالة بالتراضي

الثلاثاء ١٣ آب ٢٠١٩ - 06:22

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

يقول أشعيا النبي، "وَيَكُونُ صُنْعُ الْعَدْلِ سَلاَمًا، وَعَمَلُ الْعَدْلِ سُكُونًا وَطُمَأْنِينَةً إِلَى الأَبَدِ." (الكتاب المقدّس، إش 32: 17(، وبالتالي إنّ العدالة تصنع السلام والقانون ينتج الأمن المستدام.
قبل عصر المحكمة الخاصة بلبنان، لم يكن النقاش مفتوحاً في لبنان حول النزاع ما بين السلام والعدالة، لأنّ العدالة كانت في ذلك الوقت تابعة للسلطة الأمنية السياسية التي، من خلال فرض نظامها الأمني بقيادة النظام البوليسي، ظنًّت أنها أرست السلم الأهلي. أحياناً، إنّ سياسات الإرهاب والقمع تخلق حقبة من الاستقرار الأمني، ولكن لا يمكن وصفها بأنها سِلم أهلي قائم على أسس ديمقراطية. ويعتمد السلم الأهلي في لبنان على ركائز متناقضة ذات أبعاد مختلفة. وللسياسة الدولية تأثير كبير على المشهد السياسي اللبناني، حيث غالبية الأحزاب السياسية هي مجرد متلقي للأوامر من الأنظمة السياسية العظمى أو تلك النافذة في المنطقة. فالسلم الأهلي في لبنان هو رهينة دائمة للوضع الإقليمي الراهن الذي يشكّل مظلة للوفاق الوطني، وليست العدالة هي التي تشكّل الضمانة الرئيسة.

إنّ الأمين العام للأمم المتحدة يرى أن "العدالة شرط للسلام والسلام والعدالة غير قابلين للتجزئة". وبالتالي، إنّ التأخير في إرساء حكم القانون يقوّض السلام الدائم حيث تبقى العدالة هي أصل السلام الحقيقي. فالعدالة والسلام ليسا أهدافاً عدائيّة؛ على العكس من ذلك، إنهما يعززان بعضهما البعض. وعليه يجب ألّا تكون العدالة وسيلة لجوء منهجي لتسوية المنازعات، إذ في السياسة، يمكن حلّ العديد من المشاكل في بيئة خارج نطاق القضاء. إلا أنّ العدالة ليست مرنة أو قابلة للتكيّف ويجب ألا تكون كذلك، إنّها تسهم في السلام عندما لا يتمّ تصورها كأداة خاضعة للسلطة السياسية.
في الواقع، لم تشكّل العدالة الجزائية في لبنان رادعاً للمجرمين أو للأطراف المتناحرة خلال الحرب الأهلية. فالمشكلة أنه لم يحاسب مجرمو الحرب، بل تولّى الأمراء عمليّة المحاسبة، وأتت دائماً التسوية على حساب العدالة بحجة الحفاظ على الاستقرار الداخلي والسلم الأهلي. فأضحى السلم الأهلي ذريعة لتغطية الجرائم والمجرمين خوفاً من الحساب، حيث تمّ تبنّي رغبات القادة السياسيين اللبنانيين الذين فضّلوا السلام "المصطنع" على العدالة. فبعد الانتقال من "حكم الميليشيات" خلال الحرب الأهلية إلى زمن تقاسم السلطة بين النظام الأمني وقوة المال، وقع الانفصال ما بين السلام والعدالة. لقد عاش لبنان سلامًا مصطنعًا وعرف عدالة رمزية تمّ استخدامها من أجل إدانة المعارضين للسلطة. فكان سجلّ العدالة الجنائية اللبناني ضعيفًا، حيث كان من المستحيل محاكمة مرتكبي الجرائم السياسية، مع استثناء واحد، إدانة سياسية لقادة مسيحيين بطريقة انتقائية بعد خسارتهم الحرب وبسبب معارضتهم الحادّة.

والحقيقة المرّة أنّنا نشهد بعد الطائف قيام عقد اجتماعي سياسي قائم على الخوف من العدالة وطنية كانت أم دولية. فعندما تنتظر الدولة تسليم مطلوبين من قبل جهة سياسية عبر الوساطة والمفاوضات بدلاً من توقيف المشتبه بهم عبر شرطتها القضائية فنكون أمام منطق العدالة بالتراضي والعدالة المشوّهة. فبدلاً من أن يقوم السلم الأهلي على مقوّمات كتطبيق القانون وإرساء العدالة فهو يقوم على حماية السلاح بهدف إرساء نوع من التوازن بين الأحزاب المسلّحة المتنافرة في سبيل الحفاظ على موازين القوى بهدف الاستقرار الداخلي. ونظرية توازن قوى المجموعات المسلّحة ليس إلا مطلباً خارجياً لإيجاد سلاح بوجه سلاح الحزب الأكثر تسلّحاً. عندها تصبح العدالة أداة ضغطٍ سياسيٍ أو سبب خلاف بدلاً من أن تكون حلاً بديهياً.

إنّ استنباط نظرية أنّ الاستقرار يؤدي إلى ازدهار الاقتصاد الوطني، تكون صحيّة في حال لم يكن الاستقرار على حساب سيادة الدولة ومؤسساتها. والأخطر عندما تأتي التفاهمات السياسية على حساب السيادة الوطنية بحجة الحفاظ على الإستقرار الداخلي. وتصبح المعادلة أن السلم الأهلي يسمو على مفهوم السيادة ويصبح الدستور رهينة مزاجية الطرف الأقوى في معادلة السلم الأهلي. وغياب العدالة عن أيّة مصالحة يشكّل مؤامرة على القانون ومؤامرة على حقوق الضحايا، الذي لا ينبغي استغلالهم بل تحفيزهم وتشجيعهم على لعب دورهم بحريّة. إنّ مشاركتهم في المحاكمة هي حاسمة في عملية بناء السلام، لأن المصالحة يجب أن تتمّ مع ضحايا حقيقيين، حقيقيين وحاضرين وليس بواسطة من استعملهم كوقود لمحرقة الحقد والإجرام.

منذ ما قبل الحرب الأهلية، لم تعلّق مشنقة أي شخص مسؤول عن قتل رؤساء ومسؤولين مدنيين وعسكريين وقضاة وروحيين وصحفيين وغيرهم. ولم يحاسب أي شخص ارتكب المجازر أو ارتكب جرائم تمسّ بأمن الدولة الداخلي والخارجي. وللأسف شهد لبنان تسويات على حساب العدالة عبر تشريعات عفو عن مجرمين وعبر حالات امتناع عن ملاحقة لبنانيين وغير اللبنانيين من الأعداء الذين هجَّروا وقتلوا وخطفوا وأخفوا رجالات وطنية ومواطنين أبرياء. في المحصّلة، لقد أرسى الطائف ثقافة عدالة انتقائية ثأرية تقوم على العدالة بالتراضي وعلى العدالة القائمة على المعاملة بالمثل.

على كلّ حال، إنّ الدولة اللبنانية ممتنعة منذ انضمامها إلى اتفاقيات جنيف الأربع للعام ١٩٤٩ عن تطبيق الموجب المتعلق بملاحقة مجرمي الحرب بالرغم من إلزاميتها وسموّها على القانون اللبناني، علماً أنّ هذه الجرائم لا يسري عليها مرور الزمن، وبالتالي ليس هناك مبرر من عدم اتخاذ الإجراءات التشريعية والتنفيذية للملاحقة والمحاكمة، سوى الخوف من العدالة وفقدان السطة والمغانم.

لكن الأمر الأكثر خطورة بالنسبة لبلاد الأرز هو أنّ الإفلات من العقاب هو من الأسباب الرئيسة للمشاكل التي ابتلى بها لبنان منذ عقود حيث استعيض عن العدالة بفقدان الذاكرة حول جرائم الحرب الأهلية وبقوانين العفو. فأصبح أسياد الحرب الأهلية هم أصحاب حكم القانون في لبنان. إنّ السلطات اللبنانية - بقيادة أمراء الحرب السابقين - تحبّذ دوماً عملية المصالحة التي لا يمكن أن تنجح بالكامل بسبب الحرمان الحقيقي من العدالة. فمن خلال الحدّ من الدعاوى والمحاكمات، اعتقد السياسيون اللبنانيون أنّ باستطاعتهم التخلّص من استياء المجتمع وإعادة بناء البلد في سلام. في المقابل، تبدو أهداف العدالة وأهداف المصالحة متناقضة في أكثر الأحيان، حيث يجب أن تسبق العدالة المصالحة، ولا يمكن للعدالة والمصالحة أن يسيرا جنباً لجنب لعدم تفريغ المحاكمات من مضمونها.

منذ نهاية الحرب في العام 1990، تم تأسيس عدالة من طبقتين في لبنان. فاستثنى قانون العفو العام الصادر سنة 1991 (المادة 3) الجرائم المرتكبة خلال سنوات الحرب الأهلية الجرائم المرتكبة ضدّ كبار المسؤولين، في حين يمنع هذا القانون مقاضاة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك المسؤولين عن المجازر وعمليات الإعدام دون محاكمة والاغتصاب الجماعي والتهجير الاخفاء القصري. بعيداً من أن تؤدّي إلى المصالحة، مهّدت هذه الاستثناءات الطريق أمام العدالة الانتقائية لأولئك الذين عارضوا الهيمنة السورية. وهذا هو السبب في أنّ قادة بعض الميليشيات المسؤولة عن الاختطاف أثناء الحرب الأهلية تمكّنوا من تبوّء مناصب سياسية.

في العام 2005، ألغت الأرجنتين قانوني عفو كانا يحميان عقوداً من الجرائم البشعة التي ارتكبتها الديكتاتورية البيرونية. بعيداً من أن تكون أبدية، فإن قوانين العفو هذه تمليها إرادة سياسية تهدف إلى الاختيار في الجريمة. في لبنان، يشهد تطبيق قوانين العفو على نقص واضح في الشجاعة السياسية وعدم قدرة الدولة على مراعاة متاعب الماضي. قبل البحث عن مرتكبي اغتيالات الشخصيات السياسية، كان من الأفضل للبنان إعطاء الأولوية للمسؤولين عن الجرائم الفظيعة التي ارتكبت ضدّ المدنيين البؤساء.

إن عدم إيمان الرأي العام اللبناني بالقضاء الجزائي، هو الذي يدفعه عند وقوع أيّة جريمة ذات طابع سياسي أن يطلب اللجوء إلى محاكم استثنائية كالمجلس العدلي أو حتى الطلب بتحقيق دولي وصولاً إلى المطالبة بمحكمة دولية. إنّ فقدان الثقة بالنظام القضائي الجنائي ليس إلا ترجمة لعدم الثقة بالدولة ومؤسساتها. إنّ المواطن اللبناني يعيش أزمة ثقة مع الدولة ويتعاطى معها كجهة حصرية مضطر للتعامل مع إداراتها بهدف إنجاز معاملاته والحصول على خدمات وتسهيلات، ليس إلا.

الحالة في لبنان ينطبق عليها تحليل هيلين ماك تشانج (شخصية بارزة في مكافحة الإفلات من العقاب في غواتيمالا) أنه "عندما تقدمت عملية السلام فعليًا إلى الأمام، تراجعت العدالة. مجرمو الحرب كانوا ينتظرون بهدوء العفو. إنّ الإفلات من العقاب على جرائم الأمس هو الذي يولّد الجرائم والإفلات من العقاب السائد اليوم ".
والمجد للشهداء الأبرار !
 

الدكتور أنطونيوس أبو كسم- محامٍ دولي وأستاذ جامعي

  • شارك الخبر