hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - خريستو المرّ

مع المسيح في جحيم هذا العالم

الثلاثاء ٢٥ حزيران ٢٠١٩ - 06:03

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

في عيد الفصح يحتفل المسيحيون بقيامة المسيح من بين الأموات إذ يؤمنون بأنّه مات ونزل إلى الجحيم ليحرّر الأموات من الموت. لا يتكلّم التراث المسيحي فقط عن القيامة في اليوم الأخير وإنّما عن تحرير المسيح اليوم للإنسان من كلّ أشكال الموت، عن استمرار حضور المسيح في إنسان اليوم، في هذا العالم بالذات، وصراعه مع كلّ أشكال الموت، ودعوته لأتباعه بأن ينضمّوا إليه في مسيرة التحرير هذه؛ "من يؤمن بي، فهو يعمل أيضاً الأعمال التي أنا أعملها، ويعمل أعظم منها" (يوحنّا ١٤: ١٢). يعمل أعظم منها… الآن. لم يكن المسيح خنوعا، بل مُصارعاً ومواجهاً لأشكال الموت التي وجدها حوله، فشفى مرضى وأطعم جياعا، ودافع عن مهمّشين ومنبوذين، ووقف بجانب مستضعَفين وواجه المستغِلِّين الدينيّين والسياسيّين، ودعا الناس إلى تغيير أسلوب حياتهم. لم يَقْسُ في الكلام إلا على الذين تعالوا من رجال دينٍ، فوصف نفاقهم وقساوة قلوبهم علانية بأشدّ العبارات. قبل نزوله إلى الجحيم، نزل المسيح إلى جحيم الناس اليوميّ، هناك اعتنى بأجسادهم ونفوسهم ودعاهم أن يصيروا أحرارًا.
الإيمان ليس مجرّد تصديق لحدث، من يؤمن بالفصح يؤمن أيضًا بنزول المسيح إلى الجحيم ولهذا لا يسعه الاستعفاء من النزول إلى جحيم الناس (وجحيمه الشخصيّ) مع المسيح؛ لا يسعه دفن رأسه في الرمال، أو دفن رأسه في أمان وظيفيّ (بات اليوم شبه معدوم) وشيء من ممتلكات، ولو ضروريّة، "تؤمّن" له شعور بالأمان الذاتي. لا يسع أتباع ذاك الذي عُلِّقَ على خشبة ألاّ يعلّقوا حياتهم على خشبة المظلومين والمهمّشين لكي يكونوا بالفعل مع يسوع، فيصير الأتباع بالفعل أحراراً من الانغلاق الجحيميّ على ذواتهم، عابرين بهذا العالم ومعه، إلى الحياة.
ليس الكلامُ الجميل والتراتيل والكتابة والأفكار (على أهمّيتها كلّها) ما يجعل الكنسيةَ كنيسةً والناسَ تلامذةً للمسيح، وإنّما الإيمانُ الفاعلُ، والمساهمة مع المسيح في مسيرة قيامة البشر وتحريرهم. عوض أن يَضيع المسيحيون، ويضيّعون إيمانهم بالتلهّي بتمزيق أوطانهم، وبأوهام السلطة والغلبة، وبالصراع حول المغانم الطائفيّة، وبالاحتفال مع قياصرة هذا العالم وبهم، يدعوهم إيمانهم إلى العمل مع أخواتهم وإخوتهم للنزول معًا إلى جحيم الناس اليوميّ، لتأمين طعام الجياع، وطبابة المرضى، وتعليم الأولاد، وتأمين فرص العمل، والدفاع عن المظلومين، ومناهضة الظلم حتّى ولو شرّعه الحكّام. والأهمّ أنّهم يسعون لتحقيق أمر "أعظم من هذا"، ألا وهو النضال مع إخوتهم في أوطانهم من أجل إرساء أنظمة عادلة توزّع خيرات بلادهم بشكل عادل بين الناس بحيث لا يكون جائعين، ولا فقراء، ولا جهلة، ولا مرضى، ولا من لا يمكنه الحصول على العناية الطبّية، ولا من هو بلا منزل لائق يأويه، ولا من لا يمكنه أن يجد عملاً داخل وطنه، ولا مُعتقلٌ مظلوم، ولا معذّب في السجون، ولا مهمّش لأيّ سبب (طائفة، لون، جنس، جنسيّة...). من آمن بالمسيح يسعى مع الساعين إلى إرساء نظام يخدم الإنسان "كلّ إنسان وكلّ الإنسان" (بحسب الجملة الشهيرة للمطران غريغوار حدّاد)، لتأسيس دولة لا يكون فيها تفقير ولا استغلال. إنّ النضال الطويل النفس من أجل تبنِّي سياسات تجعل كلّ هذا ممكناً، والإدانة الصريحة لسياسات تولّد كلّ هذا الجحيم الذي يعيش فيه ملايين من البشر، نزول مع يسوع إلى جحيم الناس، للصعود معهم وبهم إلى قيامة الحياة.
هذه مسيرة، إن حدثت، تكون بالفعل والقول احتفالاً بالقيامة يمدّها خارج الطقوس إلى قلب الحياة العامّة الجحيميّ، إلى السياسة والاقتصاد والثقافة والعلوم والتربية لتصبح كلّها مجالات حياة وانتعاش للإنسان. هذه مسيرة إن تبنّاها أناس يناضلون مع غيرهم في سبيل تحقيق ثمار القيامة في هذا العالم، جسّدتْ في قلب هذا العالم صورة الملكوت الآتي، والحاضر منذ الآن. هذا ليس حُلما غير ممكن التحقيق، إلاّ عند من يعتبر أنّ المسيحيّة قصّةٌ جميلة تكمن في بضع كلمات ينطق بها، وبضعة أفكار يعرفها، وصلوات يتمتمها، وصوت رخيم يسمعه، وبضع حالات شعوريّة يمرّ بها.
المسيحيّة ليست أقلّ من نزول محبّي يسوع إلى الجحيم اليوميّ كي يزرعوا القيامة في جحيم الناس الذين أحرقت الأنظمةُ حياتهم وعائلاتهم وكرامتهم الإنسانيّة قبل أن يُعلنَ بعضهم عن ذاك الجحيم صراحةً وعلانيّةً في أجسادهم المشتعلة. لا كنيسة خارج المسيح، لا كنيسة خارج الذين هم كلّ يوم في الجحيم، هناك يسوع حاضر، ومن نور وجه ذاك الناهض من الموت، يستمدّ المؤمن أمله ورجاءه وحيويّته للعمل دون يأس، وثقته بنصر الحياة وربّ الحياة في هذا العالم.
إن لم ترم الكنيسة بنفسها عند أقدام هؤلاء الذين في الجحيم، وتجعل برنامج عملها السعي الفاعل (وليس اللفظيّ) ليقوموا منه فهي ليست كنيسة المسيح. وعلى الرغم من أنّ ما من شيء يريد المتبلّدين، كما والمستفيدين من الأوضاع القائمة، محاربته أكثر من أناسٍ يجاهرون بالحقيقة ويعملون بها ويدعون لتبنّيها، إلاّ أنّه من الواجب أن يجاهروا بالحقّ ويعملون به ويدعون إليه مع مواطنيهم لأنّ "الحقّ يحرّر"، وتبّاً للخسارات الشخصيّة.
الكنيسة هي، كسيّدها ومعه، ثورةٌ على جحيم هذا العالم، أو هي لا شيء، وبالتأكيد لا كنيسة.

خريستو المرّ
 

  • شارك الخبر