hit counter script
شريط الأحداث

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - المسيرة- أنطوان العويط

أمين سر أمين السر: الأب العويط "الجنرال الأسود"

الجمعة ٢٦ نيسان ٢٠١٩ - 11:38

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

..."استوطن أبناء مارون الوهاد والوديان، وأقاموا فيها هياكل الله على الأرض، وجعلوا الجبال سقوفهم الشاهقة. انصرفوا إلى شؤونهم الخاصة يتعاملون مع الطبيعة، فلاحةً وزرعاً، آخذين من الصخر المفتَّت على أيديهم صلابةً، وعارفين أن يروا في وجه هذه الأرض وجه الله.
كان ذهابهم إلى قنّوبين في ظاهره وواقعه لجوءاً، وفي دلالاته العميقة تقرّباً من المسيح، وعودةً عن جنوح. فكلّ شيء هناك يدعو النفس إلى الله وإلى الزهد. وكانت الصلوات ترتفع مطبوعةً بالألم والتنهّد، فينقل الوادي أصداءها، وتردّد الصخور آياتها... درب آلام وجلجلة".
قرأ مطرانٌ جليل تلك الكلمات بحبّ وشغف، فلم يتردّد لحظة في تسطير تقدمة للكتاب الذي حواها والذي صدر بعنوان "ملح الأرض" العام 1977، ذاكراً أنّ "الكاتب قد قسا بأحكامه في بعض الجوانب". أثار هذا الكتاب لاحقاً جدلاً واسعاً وعاصفة في صفوف أساقفة الكنيسة المارونيّة، الذين اعتبروا فيه انتقاداً لدورهم ومسؤوليّة يتحملّونها في الانحراف عن حياة الموارنة الأول الذين ساروا على درب الرسل.
المطران الجليل المقصود هو النائب البطريركيّ العام نصر الله صفير. والكاتب هو الخوري ميشال العويط. التقى الرجلان على روحيّة قنّوبين، فقامت بينهما علاقة متعدّدة الأوجه. ولطالما كانا متقاربين في وجهات النظر وفي الحكم على الأمور والاشخاص، ولا سيّما في ما يتعلّق بالموارنة ورسالتهم وحول جوهر لبنان وفكرته وتشخيص ما اعترى الجانب الوطنيّ والسياسة والسياسيين من تنكّر للمفاهيم والمعايير، كما الجانب الكنسيّ من انزياحٍ عن جوهر المسيح وعن رسالة الموارنة، حتّى قبل أن يتولّى المطران السدّة البطريركيّة.
لكن، كان ثمّة في العمق، تمايزٌ ملحوظ بين الرجلين، تمثّل في رغبة الإصلاح الدفينة ضمن الكنيسة لدى الخوري ميشال، واعتباره نشر التعليم المسيحيّ أساساً لهذا الإصلاح، لا سيّما للبالغين، فضلاً عن نظرته النقديّة إلى الواقع الكنسيّ، مسجِّلاً بإلحاحٍ، تقصير الكنيسة الفادح في تحضير قيادات روحيّة على مستوى المرحلة التاريخيّة.
اشتدّت العلاقة رسوخاً بين الرجلين، بعد وفاة البطريرك بولس بطرس المعوشي، في 11 كانون الثاني 1975، حين التأم مجلس الأساقفة الموارنة لانتخاب خلف له، فاستدعى الخوري ميشال من أمانة سرّ أبرشيّة طرابلس في عهد المطران أنطون عبد، ليضطلع بأمانة سرّ المجمع الذي انتخب المطران أنطونيوس خريش في 2 آذار 1975 بطريركاً. فعيّنه الأخير أميناً لسرّ البطريركيّة المارونيّة مختصراً إياه بقوله: "وحده بين المشاركين في المجمع بقي حافظاً للسرّ ولم يبح بكلمة واحدة عمّا جرى من وقائع الجلسات ومجرى الانتخاب". وقال له: "أنتَ مؤتمن باسمي الشخصيّ وباسم البطريركيّة على حلّ كلّ المشكلات التي يحملها مواطنون أو مؤمنون أفراد أو أطراف سياسيون إلى الصرح البطريركيّ. كل ما لا تستطيع حلّه، أحِله علينا". في المختصر المفيد: لم يُحِل الخوري ميشال على البطريرك أيّ قضيّة شائكة، لأنها كانت تجد عنده الحلّ الذي يرضي الجميع.
بعد استقالة خريش في 3 نيسان 1986، التأم المجمع لاختيار خلف له، فأعاد الكرّة بتعيين الخوري ميشال أميناً لسرّه. وكما في المرة السابقة حفظ الأمين سرّه، فلم يستطع أحدٌ أن يُخرج من فمه كلمة واحدة. انتُخب نصر الله بطرس صفير بطريركاً في 19 نيسان 1986، فقدّم إليه الخوري ميشال استقالته، فرفضها البطريرك المنتخب، وأبقاه في أمانة السرّ البطريركيّة وزاد عليها تعيينه أميناً لسرّه الشخصيّ. وبقي في منصبه هذا حتى استقالة البطريرك في 2011 وانتخاب بطريرك جديد هو المطران بشارة الراعي في 15 آذار من العام نفسه.
طوال خمس وعشرين سنة من حبرية صفير، وما قبل بكثير كنائب بطريركيّ، جمعتهما أروقة بكركي شتاء والديمان صيفاً. لم يفترقا يوماً. فكانا يتحرّكان معاً. وكانا يستقبلان معاً. وكانا يسهران قليلاً معاً حول التلفزيون، للاستماع إلى نشرات الاخبار المسائيّة، والتعليق السريع على الاحداث، ليخلدا إلى النوم، وليستيقظا باكراً معاً، ويقوما معاً برياضة المشي في أحراج بكركي.
طوال خمس وعشرين سنة، كانت الطريقة التي اتبعها أمين السرّ البطريركيّ الخوري ميشال العويط في ممارسة مهمته الأنطاكيّة المارونيّةّ، في أمانة سرّ بكركيّ العامّة والبطريرك الخاصة، تتلخّص في القول الإنجيليّ: لا تعرف يمينك ماذا صنعت يسارك. وقد حفظ هذا القول الإنجيليّ، فكان أميناً لا على القليل بل على الكثير الكثير، وسينقضي زمنٌ طويلٌ قبل كشف النقاب عن مكوّنات هذه الأمانة الكبرى ووقائعها وأحداثها وتفاصيلها البالغة الأهميّة والدقّة، لا على المستوى الكنسيّ فحسب، بل أيضاً على المستوى السياسيّ والوطنيّ، وعلى مستوى العلاقات الإقليميّة والدوليّة بين بكركي والعالم.
وقد شاء هو، أن يرمي على دوره هذا، ستاراً كثيفاً من الصمت والكتمان، معتبراً أنّ الأمانة تقتضي منه أن يكون وفيّاً لعهوده في حفظ السرّ، وإبداء الرأي وتقديم المشورة حين تدعو الحاجة إليهما، على أن يبقى ذلك كلّه ملك شخص البطريرك، الذي يعود إليه وحده أن يميط اللثام عمّا يجب الإماطة عنه، وأن يدفن الباقي في طيّات الذاكرة.
هكذا عرف الجميع "الخوري ميشال" كما لُقِّب دائماً. "الدينامو" النشيط والمثابر والباذل كل الجهد خدمةً للرسالة الموكلة إليه بتواضع كلّي. كان رجال السياسة والاجتماع والاقتصاد والديبلوماسية يمرّون به قبل أن يدخلوا إلى لقاء سيد الصرح تبعاً لموقعه وللأمانة التي ألقاها البطريرك على عاتقه، وأيضا للاستئناس بجلسة وبسمة وصراحة وحكمة. فكانوا يتحلّقون حول مكتب يعجّ منذ الصباح بالإعلاميين حتّى ليبدو أشبه بخليّة نحل. وكان هو ينكبّ على عمله، الدفاتر أمامه وآلة الهاتف لا تفارق أذنه. أمّا أطرف ما سئل عنه يوماً فكان عن كيفيّة تمكّنه من الإنتاج اللاهوتي والفكريّ وإصدار الكتب وسط هذه المعمعة اليوميّة، وأيضاً ما كان يسجّله المشاهدون الكثر عندما كان يصرّ على استقبال الفقراء والمعوزين خارج كلّ بروتوكول، فيحاول مساعدتهم ما أمكنه، هو الزاهد عن مال الدنيا.
كان الخوري ميشال مؤمناً بأنه "دُعِي" إلى تبوؤ هذا المنصب بإلهامٍ من الروح القدس، وقد قبل ذلك لا باعتبار المنصب تكريماً بل باعتباره "دعوة"، مثل "دعوة" الكهنوت.
كان مؤمناً إيماناً عظيماً بأنّ البطريرك – أي بطريرك – قد أُعطيَ مواهب الروح القدس، وبأنّه، في ضوء ذلك، لا بدّ أن يكون يملك من الحكمة ما لا يملكه سواه من أعضاء مجلس المطارنة، وبأنّ هذه المواهب هي التي تقوده في تبصّره لخفايا الامور وفي رؤيته للأحداث، وتملي عليه المواقف التي ينبغي له أن يعلنها ويتخذها، وخصوصاً في اللحظات الحاسمة والحرجة.
بهذه الروحيّة تعاطى أمين السرّ البطريركيّ مع ولاية البطريرك خريش القصيرة نسبيّاً ومع ولاية البطريرك صفير الطويلة بطبيعة الحال. علماً ان الفوارق بين الشخصيتين الدينيتين كبيرة ولافتة ومتنوّعة، وعلى كلّ المستويات.
جعل أمين السرّ شخص البطريرك، ومن ورائه الكرسيّ البطريركيّ، في منأى من كلّ ما يمكن أن يشتّت اهتمامه، ويربك عمله، وينغّص دوره على مستوى العلاقات بين الموارنة أنفسهم. وضع نصب عينيه، بما أوتي من معرفةٍ دقيقةٍ بالتوازنات والحساسيّات، وبما اتّصف به من لباقةٍ روحيّة، وحنكةٍ ديبلوماسيّة، وتواضعٍ جمّ، مقرونٍ بمهابةٍ كلاميةٍ وحواريةٍ بالغة الرويّة والتحفّظ والاقتصاد، أن يروح يستنبط حلولاً بذاته، وأن يذلّل العقبات، بما يجعل الكرسيّ الأنطاكي موئلاً لجميع الأبناء الموارنة، على رغم الخلافات والحساسيّات العظيمة التي كانت تعصف بهم شمالاً، وجبلاً، وجنوباً، وشرقاً، وغرباً، وفي الداخل كما في الخارج.
هكذا، وفي سبيل هذه الأهداف تحديداً، ومن أجل رسالة لبنان، تأبّطت ذراعه كبار رجال الدين والدنيا المحلّيين والإقليميين والدوليين وهم يصعدون درج بكركي، رغم معرفته بأثر الدنيوي ومكانته في نفوس الكثيرين منهم، وترهّل الزهد والتعفف والترفّع لديهم، وتيقّنه من مصالحهم وتوجّهاتهم التي لم تكن لتلتقي حتماً مع مصلحة لبنان.
كان يملك الكفاءة المتعدّدة الخلفيّات، التي تمكّنه من الاضطلاع بهذا الدور الجسيم، ليست أقلّها خلفيّته العائليّة، حيث كان يتحدّر من عائلة وجهاء موارنة في شمال لبنان. وقد أخذ عن أهله، لجهّة أبيه وعمّه وأجداده، ولجهّة أمّه وجدّه لها، وأبناء عمومتها على السواء، كلّ المؤهّلات التي تجعله في موضعٍ ملائمٍ لمهمةٍ تاريخيّة كتلك المهمة، وخصوصاً أن البيت الوالدي الذي نشأ فيه، كان قد شكّل محطّة تاريخيّة خلال نزول البطاركة العظام فيه كالحويّك وعريضة وهم في طريقهم إلى مقرّ البطريركيّة الصيفي في الديمان.
كان يمشي بين النقاط، بل بين الألغام، في علاقة الموارنة بعضهم ببعض. ولطالما جنّب الكنيسة كلّها خلال فترة توليه الأمانتين البطريركيتين في عهدي خريش وصفير، كؤوساً مرّة، حال دون أن يتذوّق أحد طعمها، لأنّ الرجل الأمين جعلها محفوظة في قلبه.
لم يتباه – لا أمام بطريركه ولا أمام المطارنة ولا أمام العامّة والآخرين - بأنه صنع كذا وكذا، وتجنّب كذا وكذا. لكن البطريرك كان يعرف في ما بعد، أي بعد مرور الاعصار، أنّ العاصفة ما كنت لتمرّ لولا حنكة الخوري ميشال، وطواعيّته، ودماثة خلقه، وبعد نظره، وصبره الطويل على تفهّم حاجات الأطراف والأفراد والضعف البشريّ.
ولطالما كان الخوري ميشال منشغلاً في كواليس الكرسي، وفي الأروقة، والغرف الجانبيّة، بصون العلاقة بين البطريرك والرئيس المارونيّ مما كان يعتريها من جفاءاتٍ متنوّعة، وأحوالٍ رجراجة، لأسبابٍ شتّى. ليس أقلّها أنّ الرئاسة كانت على الدوام، أو في الغالب الأعمّ، معقودةً لأشخاصٍ يصلون إلى المنصب الكبير بتسوياتٍ تجعل شخص الرئيس مقيّداً باعتباراتٍ وضغوطٍ وولاءاتٍ وميولٍ وأهواءٍ وحسابات ليست موضع اهتمام الكرسي البطريركي، الذي كان يرى إلى لبنان وإلى الرئاسة وإلى الأمور الوطنيّة أبعد من حسابات السياسة، والمصالح، وفوقها، ناظراً إلى مسؤوليّته في حفظ أمانة لبنان ومجده، وصون المهمة الأنطاكيّة المارونيّة، وتفعيل حضورها في لبنان باعتباره أرض لقاء وتفاعل وحوار، إضافةً إلى مسؤوليّته المعنويّة في صون الرئاسة المارونيّة من العثرات، باعتبارها الرئاسة المسيحيّة الوحيدة في دول المشرق والمنطقة العربية برمّتها.
قلائل يعرفون أن عقداً كثيرة وتباينات جمّة بين الرئاسة والكرسي كانت تُحَلّ من طريق الخوري ميشال، بسبب الروابط الشخصيّة الوثيقة التي كان ينسجها مع "الموفدين" الرئاسيين إلى بكركي، الذين كانوا يأتون ويغادرون، جيئةً وذهاباً، من دون أن يدري أحد بهم علناً. وكم كان يبادر هو بذاته إلى الاتصال بهؤلاء "الموفدين" على المستوى الشخصيّ، داعياً الواحد منهم إلى زيارة أو لقاء (وكذلك العديد من القادة الموارنة)، جاعلاً من هذه الاتصالات عامل تلطيف وتليين، عندما كانت الأجواء تتلبّد بين الكرسيين، كرسي الرئاسة وكرسي بكركي، أو بين البطريرك والزعماء الموارنة.
على مستوى العلاقات مع الكنائس المسيحيّة، والطوائف والمذاهب الإسلاميّة، كان الخوري ميشال يملك من المعرفة بالآخر، وبهواجسه، ومن مواهب الحكمة والتواضع وحسن الإنصات إلى هذا الآخر، ما يجعله قادراً على ضبط الإيقاع الأوركسترالي للموازييك الدينيّ والطائفيّ والمذهبيّ في العلاقات بين كرسي الموارنة والكراسي الدينيّة، أمسيحيّة كانت أم مسلمة أم موحِّدة. وكان ذلك كلّه يحصل بودّ، بصمت، بكتمان، بهدوء، بعفوية، بلياقة واحترام، بعيداً عن الأضواء وصخب الإعلام، والشائعات، بحيث أن شخص البطريرك وموقع الكرسي يبقيان محفوظين ومصونين، من كل ضرر وإرباك.
جعل الكرسي البطريركي مفتوحاً أمام العزّل من الناس، أمام الفقراء، أمام المحتاجين، أمام الملاحَقين السياسيين، وأمام المضطهدين في عهود الوصايات والاحتلالات، على غرار ما كان عليه الأمر أيام البطاركة القدامى، وفي أيام المحن والجوع والأمراض، والحروب، والاضطهادات. فكان يجد حلاً للجميع، على طريقته، التي كانت موضع إعجاب وإذهال.
كان قدر الخوري ميشال أن يبقى كاهناً للربّ، فقد كان من العجب العجاب أن لا يُنتخَب مطراناً، في مجامع الأساقفة الموارنة التي كانت تُعقَد "بإلهامات" الروح القدس وتطرح اسمه بشدة والحاح ليعود ويختفي، وذلك بالقياس إلى الدور المحوريّ الدقيق المتعدّد والمتنوّع الذي كان يضطلع به.
حاله مع "إجحاف" الكنيسة في حقّه، كحال عدد من الكهنة الخلاّقين والفاعلين والمؤثرين الذين، لسوء تدبير، وبسبب من شخصيّاتهم المستقلّة والمهابة التي كانوا يتمتّعون بها، استُبعدوا من تحمل المسؤوليات وأجهضت مشاريعهم الطليعيّة لتحقيق الإصلاحات داخل الكنيسة.
أسبب ذلك، يا ترى، "لعنة" اللقب الذي لطالما رافقه في مهمّته طول أربعة وثلاثين عاماً، في الكرسي البطريركيّ، حيث كان يُطلق عليه – تحبّباً أو تهيّباً أو غمزاً – وصف "الجنرال الأسود"، كنايةً عن سلطته الواسعة التي تخطت "الوظيفة" والمنصب والدور والشخص؟
قال فيه الرئيس الراحل شارل حلو أمام البطريرك: "صعب تلاقي خوري متل ميشال. منّك مجبور تسمعلي سيدنا... رجائي أن يصبح مطراناً".
أمّا الرئيس الراحل الياس الهراوي فتوجّه إلى البطريرك قائلاّ له: "أنا فيني أعطي الخوري ميشال وسام... أكتر من هيك ما بقدر".
وأظهر له الرئيس ميشال سليمان مودّة خاصة عندما اتّصل به إلى المستشفى حيث كان يتعافى بعد عمليّة جراحيّة، وذلك إثر الزيارة التقليديّة الأولى التي قام بها إلى الصرح البطريركيّ كرئيس حيث لم يجده، قائلاً له: "ولو بجي عبكركي وما بتستقبلني؟!".
وأسرّ له أمين سرّ فاتيكانيّ يوماً قائلاً: "نشكرك. نشكرك كثيراً على كلّ ما تقوم به في بكركي". وقال له آخر:" تأكد، لو وصل اسمك إلى قداسته، لما تردّد ثانية في قبولك. ولعادت الموافقة إلى الصرح في اليوم التالي".
كاهن المسيح الذي لم يصرّح يوماً علناً، والذي اكتفى بالكتابة المكثّفة عن الوجدان المارونيّ، غيّبه الموت في 27 آذار الماضي بهدوء وصفاء حافظاً للسرّ البطريركيّ الماروني لأربعة وثلاثين عاماً، بعدما أمضى في خدمة الكنيسة المارونيّة أكثر من واحد وستين عاماً.
صاحب الكتاب الأخير له "وصيّتي إلى الموارنة" كتب عن قنّوبين: "هناك في ذلك الوادي، لا مكان إلاّ لعمل الروح في الإنسان والأرض. وادي قنّوبين هو وادي الخشوع والفقر والتجرّد والعونة والتضامن والمحبّة والتأمل والتفرّغ للعبادة. إنّه المكان الذي تطلبه الروح لإقامتها، والمسيحيّة لنشر رسالتها. لأجل ذلك يكتفي المؤمنون هناك بمغارة يأوون إليها وببعض الأعشاب يقتاتون بها وبثياب يسترون بها أجسادهم.
هناك ترخص خيرات الدنيا. هناك يصلّي المؤمن ويخشع أمام ربه. هناك في هذا الوادي السحيق تحديداً، بما يحمل من خفر ورهبة، الوادي الذي لا تصل إليه إلا النسور، جعل البطريرك المارونيّ كرسيّه في إحدى صخوره، ومنه كان يوجّه شعبه، ويقوده، كما كان موسى يقود شعبه في العهد القديم. هناك في وادي قنّوبين، صلَى البطاركة وصاموا وسهروا. هناك عقدوا مجامع. هناك استقبلوا قناصل العالم. هناك استقبلوا الموفدين البابويين. هناك كتب البطريرك الدويهي تاريخ الطائفة المارونيّة. هناك عقد بطريرك آخر اجتماعاً له مع أساقفته بحثوا فيه كيف يختبئ من دوريات الأتراك. وهناك التقى بطريرك آخر أساقفته ليتسلموا رسالة باللاتينية من الحبر الأعظم، ولينتظروا بعدها سنة أو سنتين ليجدوا من يقرأها لهم فيفهموا مضمونها. هناك في قنّوبين، تستطيع الحرّية، حرّية الإيمان والمعتقد والتفكير والرأي، أن تجد مبتغاها وملاعبها مع النسور. هناك حيث المعابر الضيّقة والمخيفة التي وقفت حاجزاً في وجه جيوش الأتراك، والتي سلكها الموارنة كلّ يوم سعياً وراء لقمة العيش ولقمة الإيمان والحرّية. هناك المنحدرات الحادة الهائلة. هناك الحفافي الكثيرة الإنحناء والقليلة التراب التي جعلها الموارنة جنائن ليأكلوا خبزهم بعرق جبينهم والتي جعلتهم يقولون بثقة وخوف "أعطنا خبزنا كفاف يومنا". هناك، حيث ارتضى الموارنة شظف العيش ليحافظوا على حرّيتهم وإيمانهم.
لقد عاشت الطائفة المارونيّة في وادي قنّوبين أصعب حلقة من تاريخها الطويل. فشكّل هذا الوادي مدرسة تعلّم فيها الموارنة أن يتبعوا يسوع أولاً على أكمل وجه ويطابقوا حياتهم على حياته. فكان حضورهم في قنّوبين كإزميل قدّيسهم مارون الذي يعمل في تمثال من رخام، في كنيسة تنبت قدّيسين على مدى الأجيال ولا تمل".

  • شارك الخبر