hit counter script

ليبانون فايلز - باقلامهم باقلامهم - جورج عبيد

إرهاب نيوزيلاندا وبشارة مريم في لبنان

الأربعاء ٢٧ آذار ٢٠١٩ - 11:00

  • x
  • ع
  • ع
  • ع
اخبار ليبانون فايلز متوفرة الآن مجاناً عبر خدمة واتساب...
اضغط هنا

لا تنفصل العملية الإرهابيّة المباشرة والخطيرة في نيوزيلاندا في أحد المساجد عن مألفة صدام الحضارات والأدبان. فالدم الزكيّ المهراق في هذا المسجد استدعى عملاً إرهابيًّا آخر ترجم بتهديم كنيسة في باكستان وتحطيم الصليب تحت أصوات التكبير "الله أكبر". طبيعة العمل الإرهابيّ في هذه البقعة الأوروبيّة، ستجعل أوروبا من جديد ساحة مكشوفة لاعتداءات تحمل في طياتها وتحوي في ثناياها الصفات الدينية والعرقيّة، وكأنّ أوروبا في مواجهة مع الإسلام، فيما أوروبا المسيحية كانت أول من فتحت أبوابها للمسلمين فشيّدوا فيها المساجد ومارسوا شعائرهم الدينية بحريّة تامّة.

من قام بهذه العمليّة في قلب أوروبا شاء أن يظهر بأن الإسلاموفوبيا يقابلها في أوروبا مسيحو-فوبيا وعلمانوفبيا (المألفتان منحوتتان بتصرّف)، بدليل أن الشاب الإرهابيّ الأرعن الذي قام بتلك العملية اجترّ في سياق إجرامه العلني والمباشر سلسلة أحداث تنتمي إلى هذا السياق. ما لم يتمّ لمسه ومعالجته في بساط النقاش، هنا وثمّة، حول هذه القضيّة وما سبقها وشابهها من قضايا محشوّة بالعنف الرهيب، يتمحور وينطلق من سؤال واضح: من استفاد من نشوء الحركات التكفيريّة وتكوينها الفكريّ، ومن زرعها وموّلها لتبلغ هذا البعد الخطير في الممارسات الهمجيّة والحروب التدميريّة بكلّ ما تعنيه هذه الكلمة من معنى؟ وفي واقع الأمور، من موّل لهذا التكوين ووسّع انتشاره انطلق من ثلاثة مفاهيم مترابطة عضويًّا وجعلها راسخة ومتفشيّة وهي:
1-صراع الحضارات والأديان،
2-الفوضى الخلاّقة،
3-نهاية التاريخ.

وقبل تشريح تلك المفاهيم وتبيان ترابطها العضويّ وانغراسها الفعليّ على الأرض، لا بدّ من إبداء ملاحظة دقيقة للغاية مستنبطة من واقع الأحداث المتجليّة من وقائعها، وهي أنّ كلّ منظومة أصوليّة أو إحيائيّة استدعت وتستدعي في المقابل نشوء منظومات أخرى أو تستولدها من رحمها. وفي سيرورة الأحداث خلال القرن الماضي، كانت المنظومات الدينيّة تتحرّك وفقًا للإدارة الأميركيّة وترسّخ بانقلابات أو حركات سياسيّة ضمن دوائر جغرافية مشرقيّة بهدف مواجهة الاتحاد السوفياتيّ ومنع تمدّد الشيوعيّة، لم تكن تلك الحالات مستهلكة في المشرق أيضًا بل في أوروبا ليبدو حيط برلين الحدّ الفاصل بين غرب رأسماليّ ليبراليّ كاثوليكيّ-بروتستانتيّ، وشرق شيوعي-ثيوقراطيّ. مع سقوط الاتحاد السوفياتي وانهيار حائط برلين دخل العالم من أوروبا بالتحديد في مشروع صراع الحضارات والأديان، وقد بات معروفًا أن هذا المشروع عينًا من إنتاج صهيو-أميركيّ، عبر مؤلَّف واضح علا نجمه، وهو:The Clash of Civilizations and the Remaking of World Order لمؤلّفه صموئيل هانتنغتون Samuel P Huntington وقد قدّم له وزير الخارجية الأميركيّ الأسبق هنري كيسنجر. هذا المؤلَّف عينًا بدأ العمل به في أوائل التسعينيات من القرن المنصرم ونشر سنة 1996 وبني على نظرية المفكر فرانسيس فوكوياما القائلة "بنهاية التاريخ"، ومن صلبها نبتت نظرية "الفوضى الخلاّقة" عند المفكّر الإنكليزيّ-اليهوديّ الأصل والأستاذ في جامعة جورج تاون وشنطن برنارد لويس ومن تلاميذه الأقحاح كوندوليزا رايس جون بولتون مارتن إنديك جيفري فيلتمان ديك تشيني... وقد استهلكوا نظرية الفوضى الخلاّقة في بلاد المشرق.

لقد تمّ غرس نظرية الإرهاب الدينيّ بتطبيق نظريّة صدام الحضارات في أوروبا الشرقيّة مع حرب البلقان إلى حرب كوسوفو، فكانت الحرب قوميّة-دينيّة بامتياز. وكانت إسرائيل في الوقت عينه تنفث حقدها ما بين فلسطين وجنوب لبنان. وفي الحادي عشر من أيلول من سنة 2001، حصلت العمليّة الإرهابيّة التي طالت البرجين في نيويورك والبنتاغون في واشنطن، لتنشأ على ضوء ذلك نظرية الإسلامو-فوبيا Islamo-phobie فتنطلق محوّلة الإسلام من معناه الأصيل الكامل والليبراليّ والسلميّ إلى مجموعات وحركات إرهابية تتحرّك وفق أجندة دولية مرسومة سلفًا، فنحوّل الإرهاب من أوروبا إلى المشرق العربيّ بتطبيق نظرية الفوضى الخلاّقة، المستولدة من رحم نظرية صدام الحضارات التي استوت في أوروبا الشرقيّة، فتمددت نحو الشرق وفجرته بنظرية الفوضى الخلاّقة ضمن حرب مذهبيّة خطيرة للغاية بين السنة والشيعة استهلكت الموروثات التاريخية القديمة، منطلقة من العراق باتجاه لبنان. ثمّ تعمّمت تلك النظرية ضمن المدى العربيّ، فكان الربيع العربيّ بدءًا من الجزائر وتونس وليبيا ومصر إلى أن دخلنا سنة 2011 حقبة الحرب على سوريا، فأمست حربًا واضحة المعالم والآفاق بتأثيراتها ومؤثّراتها، ولمّا نزل نكتوي من تداعياتها إلى الآن في المربع السوريّ-الأردني-العراقيّ-اللبنانيّ.

خطورة المسألة بأنّ من نظّر لتلك الحروب بآحادية مفرطة للغاية، ظنّ أنّ إمكانية التطويع ونظرية التسليع ستكونان متاحة أمامه لمراحل طويلة من دون إمكانية تصاعد قوّة ثانية وثالثة تحدّ من قدرة تلك الآحادية على الهيمنة. لقد ظنّ هؤلاء أنهم بالإرهاب يتمسكنون ويتمكنون فيتملكون ومن ثمّ يتموضعون وبعد ذلك يتحرّكون، إلى أن تمرّد مارد الإرهاب في أوروبا نفسها. هل ننسى عملية شارل إيبدو في فرنسا والحوادث التي لحقت بها في ألمانيا والنمسا؟ ولهذا فالعمليّة الإرهابيّة في نيوزيلاندا غير منفصلة البتّة عن تلك الأجندة المرسومة بعمقها الأميركيّ وبتحريك يهوديّ-أصوليّ، بلغ ذروته بأنّه أكّد على نظرية "الفوضى الخلاّقة" لبرنارد لويس، بتجسيد واضح وبتوقيع دونالد ترامب على منح الجولان السوريّ المحتلّ لإسرائيل كما وقّع على وثيقة تهويد القدس ووثيقة أخرى تجعل من إسرائيل دولة يهوديّة إلى الأبد. هذا مسار خطير سيضع العالم بدءًا من المشرق في مسار احتراب من أجل نتنياهو.

أمامنا سؤال نشاء طرحه ونريد من الأحرار في العالم طرحه، بأي صفة يفرض دونالد ترامب قراراته على العالم؟ ألا يدلّ ذلك على أن الشرعيّة والقوانين الدوليّة باتت في خطر شديد بل باتت ملغاة وباطلة أمام آحاديّة ترامب؟ أين هو الموقف الروسيّ المتفاعل القادر على أن يستجمع القوى حوله لتحريك رؤية مضادّة تؤكّد على هوية الجولان السوريّة ومنطقة المزارع والغجر اللبنانية، أين هي جامعة الدول العربيّة، ولماذا لم تفهم بعد أن وجود سوريا خارجًا يدعها في مهب الرياح على المستوى العربيّ؟ كيف تقبل فرنسا الحرة أن يتاجر رجل واحد في العالم وينفث سمومه في أجسادنا جميعًا من دون صدّ ومواجهة؟ ألم تفهم أوروبا بأنّ أميركا خلف الصدامات في داخلها فهل ترضى بدورها التمزّق، الم يفهم العرب بأن أميركا تستلبهم وتستحلبهم وتشتري وتبيع على ظهورهم ثم ترميهم عظامًا مجرّدة لتدفنها في صحرائهم مع نفسه؟

وعلى الرغم من ذلك احتفلنا البارحة بعيد بشارة مريم. كنا مسيحيين ومسلمين معًا نوجّه رسالة معًا بأن طهر مريم أو المريميّة وبهاء العيسويّة باللطف الكبير ستبقى أقوى من إجرام قاتل، يسلب مشرقنا إلى وهدات الجحيم. كتب المطران جورج خضر في مؤلّفه لو حكيت مسرى الطفولة: "إن المسيح راقد في ليل الثقافات والأديان" ولعلّه قصد بأنّ المسيح متحرّك في ليل الثقافات والأديان، ويحرّكها إلى الانوجاد في بعضها البعض والتلاقي في قلب الله، ليؤكّد بأنّ الله غير ممزَّق بصراع الحضارات والأديان كما راج من فكر هانتنغتون. وقد شاء هذا المفكر على طريقته أن يظهر بأنّ الله يتصارع مع نفسه، ومتى تصارع تمزّق وانفجر دماءً ومات معه التاريخ والعالم. وبشارة مريم بالحبل بالمسيح من دون زرع رجل أمست في تكويننا اللبنانيّ-المشرقيّ، اساسًا لحوار ولقاء ومبيت وكما كتب الراحل الكبير السيد هاني فحص في "بيتنا الواحد"، وهو البيت الإبراهيميّ حيث نقيم هذا الاحتفال بمعيّة واحدة ضمن طقس واحد. بشارة مريم، تأكيد بأنّ لبنان أنموذج حيّ وفريد لحوار الأديان والحضارات، وهذا الأنموذج يجافي وينافي الآحادية الدينية-القوميّة التي تجسّدها إسرائيل، والتي تهدف إلى جانب أميركا بضرب الفرادة اللبنانية بخصوصيّتها اللؤلؤيّة والسّاطعة. فمتى سقط اللطف وبطلت الطراوة وفسد الملج وانطفأ النور ماتت الخصوصية واضمحلت الفرادة وانتصرت إسرائيل في العالم كلّه.

ومسك الختام، قراءة رائعة أكّدت على بهاء الخصوصيّة أجراها الراحل الكبير السيّد هاني فحص لبشارة مريم، أتركها بين أيديكم وفي قلوبكم لتدركوا كم أن لبنان بهيّ وجميل بكلمة سواء وواحدة، فيها المحبة أقوى من العنف والموت، وتقودنا نحو القيامة والحياة.

"مريم اصطفاها ربها مرتين، مرة لذاته ومرة لنا: “ان الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين” قبل ان يصطفيها ربنا ربها الذي يمكن ان يصطفينا وهو احيانا يصطفينا، عندما نرغب ونقترب، هي غيرها بعد ان اصطفاها، صار الاصطفاء واقعة ورواية ومثلا، وصارت المصطفاة اماً كونية، اثبتت ان النبوة، كما هي تلق من المطلق، ان لم تكن شأن انسان ما؟ فان الانسان ذاته، هذا او ذاك لقابلية فيه، لسر فيه، يتقدم الى موقع، الى مكان، الى حال حاشدة بالنبوة في مريم، من خلال البشارة، حال من حال النبوة، كحال ام موسى عندما اودعته القفص واطلقته في البحر، وبقي قلبها خالياً لأنها اصغت الى الصوت الآتي من مكان آخر… وهكذا صامت مريم بعدما تلقت البشارة ارتفعت، والصوم ارتفاع ويقال: “صام النهار اذا ارتفع” اي اصبحت الشمس في وسط السماء تطل على كل الجهات من مسافات متساوية، وترسل لنا نورها ودفأها بالتساوي… صامت صمتا حفاظا على بكارة البشارة من الكلام المزجى على غير يقين “يا اخت هارون ما كان ابوك امرأ سوء وما كانت امك بغيّا”… اذا، هذا استحقاق مريم، وهنا تطابق الارادة التكوينية للمولى اي التي لا يتخلف فيها المراد عن المريد، او الارادة ارادته التشريعية اي التي يمكن ان يتخلف فيها المراد عن الارادة او المريد عندما لا يكون المريد الثاني، اي الذي يباشر موضوع الارادة، الانسان، كفياً، وعليها يترتب الثواب والعقاب، لأنها مجال الحرية والاختيار. فيصطفي مريم من دون احباط لدورها وأجرها الذي بلغ الذروة في الحمل الاستثنائي المنقطع جذرياً عن كل ظواهر الكون وتسلسلها المعهود، وفي المخاض وحركة الكون حوله، من النخلة اليابسة تثمر في غير أوان وتستجيب بالهز فتهمي ثمراً جنياً، الى النهر السري الذي ينبجس انبجاس الكلام من الوليد، بولادته يولد الكون ولادة أخرى… الى هذا الوليد أو المولود الذي عاد ليلدنا من دون أن يلد، أخصبته البتولية وخصّبته حتى غدا حقلاً كونياً للمعنى، للروح، للمحبة… وبقي ويبقى الى أن يرث الله الارض ومن عليها بستاناً للمثل والامثال والمثالات والامثولات، كلما ذقته وشفيت من علة كالموت أو العمى أو البرص، ومرض المعنى أشد إيلاماً وإعضالاً من مرض البدن، تذكرت رحماً أدخرته لك وللعالم وللأزمنة… تذكرت مريم وقلت: التقوى، الصمت، التخلي، الانصراف، الزهد، العفة، مصادر غنى وضمانة حياة". 

  • شارك الخبر