hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - بقلم جورج عبيد

السنة الجديدة المطلّة 2019

الإثنين ١٥ كانون الأول ٢٠١٨ - 05:42

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ملاحظة توجعني كثيرًا، مع إقبالنا إلى رأس السنة، وهي اتجاه الناس إلى المنجمين والمبرّجين والمبصّرين ليقرأوا أحوالهم مستسلمين لأقدارهم بظنّ كبير أنّ هؤلاء القوم قادرون على أن يرون ما لا يرى، ويحدّثونا بالغيب، فيما تتصحّر عقولنا وقلوبنا من حضور الله فينا، متنكّرين بأنّ الله معنا وفيما بيننا، وإذا أقبلنا إليه نقبل إلى ملء الحياة بالنعمة، وإذا أغفلناه وأهملناه نبقى أسرى الصحراء القاحلة فيما هو يدفق الينابيع إلينا لتتمو بالارتواء منها حتى لا نعطش أبدًا.

تلك عادة سيّئة للغاية. وهي تبطل الحريّة بكليّتها في سلوكياتنا وقراءاتنا واعمالنا. الحريّة هبة الله وعطيّته للبشريّة، الخضوع للأقدار عن طريق هؤلاء حتى لو استعملت في سبيل التسلية، تشويه كامل للوجود البشريّ بمعناه الحقيقيّ بهويته ووجوديّته، ومحقّ لحضور الله في التاريخ والإنسانيّة، وتشريد يمارس علينا بقيود وهميّة باطلة، نخضع لها ولمقاييسها، ونبني عليها قصورًا من خيال، أو نتوجّس مما يقال لنا، فيما الحقيقة تبقى ملك الله، والغد والأزمنة ينطقها هو فيك ومعك، بلا شريك ولا شِرك في النطق، بل أنت تتفاعل بالنطق بما أغدق عليك من مواهب وأعطي لك من رؤى وسكب عليك من إبداع. في كلّ سعي لا أحد يكتب بل نحن نستكتب بحبّ الله وكرمه وضيائه، وما سوى ذلك باطل الأباطيل.
بولس الرسول في رسالته إلى أهل غلاطية وهي مخصّصة للميلاد قال: "ولمّا حان ملء الزمان أرسل الله ابنه مولودًا من امرأة مولودًا تحت الناموس لننال التبني". لقد ربط بولس الأكرم بين ملء الزمان وتجسّد ابن الله من مريم البتول، وهو ربط متعمّد، ليكشف بلا التباس، بأنّ المسيح المتجسّد هو كمال الناموس، وعلى الرغم من ذلك خضع للناموس العبريّ ليكتب عهدًا جديدًا بينه وبين شعبه، وأنّه، أيضًا، كمال الأزمنة على الرغم من أنه بات في قلب الزمان. المسيح هو الكمال، وهو القائل ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات، وعل الرغم من ذلك أعطى الأخيار والأطهار أن يروا ويقرأوا ويفقهوا، وأعطاهم أن يسموا ويقودوا الناس به وليس بسواه. يفترض هنا أن نفهم بأن كلّ عدل وبرّ وكلّ جمال وخير وحقّ يعبّر عن المسيح المكنون في الزمان، الموجود في كل إنسان في كل الأديان. كل صرخة حقّ بوجه الظلم هي المسيح المتجسّد، كل عطاء كريم بنساب فيه المسيح ويتجسّد. فيما الاتكال على نشاذ هؤلاء هرطقة ومروق، وهو بدوره عبادة وثن، اننا "نؤلّه" من هو ترابيّ وفاسد ولا نذهب إلى الله الذي من ملئه خرجنا وإليه نعود، وهو مصدر كلّ غنى يتساقط علينا من سناه.
التحدّي الذي هو أمامنا، كيف نقول الله في سنة جديدة مطلّة، كيف أجعله ساكنًا القلوب مالكًا لحياتنا ومالئًا فكرنا؟ معظم الناس في رأس السنة، يبحثون عما يلهيهم عن حقائقهم، يسهرون ويلعبون القمار، ويسكرون حنى الصباح، وعند الوعي، (راحت السكرة وإجت الفكرة)، يتنبّهون بأنّ الأحداث عينها تتكرّر سواء كانت شخصية أو أمميّة. معظم السنوات مرّت وستمرّ سنوات، والجوع باق والبطر باق، ثمّة من يفتك وآخر يفتك به، فالجلاّد ماض في غيّه والضحيّة يئنّ من الوجع. لا الأمراض تغيّرت ولا الأوبئة انتفت ولا الفقر زال. جميعنا كنّا ضحايا حروب نعرف سلفًا أنّها تنتهي إلى تسويات، ومعظم التسويات تتمّ على حساب الفقراء والضعفاء، فما الذي تغيّر. كلّ الأمم حاربت في سوريا وأمعنت فيها قتلاً وتشريدًا وما كانت الفائدة، ألم يحدث هذا سابقًا في لبنان؟ فهل تعلمنا؟ هل يعلم واحدنا بأنّ كل سنة تمضي من حياتنا تدنينا من الموت؟
أمام شدّة تلك الرؤية الواقعيّة، يفترض أن يبدأ كلّ واحدة منا سنته يتقييم حقيقيّ لمسيرتهخلال سنة وسنوات مضت، فالمحطات تتيامن ما بين الصبا والشباب والكهولة والشيخوخة، وكلّ منّا يقفز من محطّة إلى أخرى حتى يلقى وجه ربّه، والانتقال فيها طبيعيّ حسب طبيعة الحياة. في لحظات الانتقال، يفترض بكلّ ذي جسد وعقل نيّر أن يجيريّ تقييمًا لما قام به أو أنجزه، أن يميّز الصالح عن الطالح، فإذا ما اكتشف في داخل كثافة للسيّئات بالإساءات والتهجمات على الناس، بالإجرام أحيانًا، بالنميمة والحقد والكره والرفض،أن يتجّه إلى توبة فعليّةويطّهر نفسه منها. لعلّه بات لزامًا طرح السؤال التالي: أيّ هو الأحلى والأجود أن تسيء إلى الاخر وتجرحه بالصميم أو تحبّه وتتكامل معه في الأعماق؟ ولو فرضنا بأنّ الآخر أخطأ وأساء إلينا، فهل نردّ إليه الإساءة، أو نحاول احتواءه وتحويل الإساءة إلى حوار ورضى متبادل؟ ذات يوم حصل سوء تفاهم بيني وبين صديق لي، فما كان من هذا الصديق سوى أن وجّه لي غساءة كلامية ورفع صوته عاليًا، صمتّ أمامه وما رددت عليه حتى استغرب صمتي، وباستغرابه سالني ما بالك لا تردّ؟ قلت له يا فلان لن أردّعلى إساءتك بإساءة لأننا حتمًا سنتصادم ونفترق وانا لا أريد منك سوى الهدوء لتفهم الحقيقة،عندما تهدأ نتكلّم. أحسى الرجل بطراوة الكلمة فندّت قلبه، أشعل سيجارته، وقال ما عندك، اجبته: هل أنت على علم بالموضوع حتى اتفعلت هكذا، أو أنه نمي إليك، قال نمي إليّ. ابتسمت وشرحت له الموضوع بموضوعية وهدوء، واصررت على أن المحبّة تبطل الغضب الجارف برقتها وأحيانًا بغضبها، وبعد سماعه هدأ كليًّا وقال لي أنا مدين لك باعتذار ومائدة غداء قم لننطلق... عانقته وأجبته يا صاح، بين الإخوة ليس من اعتذار هناك محبة منسكبة والله محبّة ولبيت دعوته بفرح وسرور.
سردت هذه القصة للتدليل على أن التقييم الهادئ يساهم في بلورة المواقف وتوضيحها إذا ما انطلق من الكيان الداخليّ للإنسان وسما إلى وجه الله. رأس السنة ليست بالسهر والبطر والترف الفاحش، ليست بالأكل والشرب حتى السكر، إذا ما افترض كل واحد منّا انه متجه إلى وجه ربّه، ليس ملكوت الله طعامًا وشرابًا بل برّ ونسك مع قداسة. الإنسانتائق أبدًا إلى الملكوت المنكشف في كلّ الأديان وعند المسيحيّة إنه منكشف بالمسيح يسوع. فلا تجعلوا من السنة الجديدة مدى لانتفاخ شهواتكم. لا يعني هذا أن لا نفرح، المسيحية تدعونا للفرح، ولكن ثمّة بون كبير بين فرح وثنيّ وفرح روحيّ. أعيادنا صارت مكمنًا لفرح وثنيّ ورأسمالية متوحّشة تستهلكنا تنهش لحومنا وتطحن عظامنا، وعندما ينتهي العيد يعلو الصراخ والنحيب، بأن ليس في جيوبنا مال.
دعائي ان تفرحوا، فالفرح رائع وجميل، ولكن أيضًا إفرحوا بالمسيح المخلّص وتذكروا أنّ الحقيقة فيه وليس عند الضالين من المنجمين والعرّافين، الحقيقة في محبته لنا ةتجسده في حياتنا ومن حياتنا. المسيح كمال الزمان، ونحن نعيّد لختانه حيث يتمّ استئصال قطعة من غرلته، أي لحمه، حسب شريعة اليهود، وهو ما يعرف بالتطهير، وينزف دمًا. هذا العيد يقودنا إلى حقيقة الناموس، وهو إياه من سفك دمه، صار تحت الشريعة لنصير به الشريعة الجديدة أي الأمة الجديدة، المنبلجة من على الصليب. يسوع في هذا العيد ذبيحة حيّة وحقيقيّة إلى أن يعلّق على الخشبة ويموت حينئذ تكتمل الذبيحة ويتحقّق النصر بالقيامة.
في رأس السنة نحن مدعوون إلى الوليمة الإلهيّة مع يسوع المسيح. لا تتركوه وحيدًا حائرًا بشعبه، ولا تلقوا بأنفسكم في ما هو خارج عن هويتكم الحقيقيّة. إذهبوا إلى المسيح وعانقوه في كنائسكم ورعاياكم، كونوا كثرًا واحتشدوا كأنكم في أحد الشعانين، واكتشفوا بهاءه. إذهبوا إليه شيوخًا وشبابًا وأطفلاً ونساء، لأنّه وحده رأس كل سنة نقبل عليها. السنة لا تقاس بالتوقعات بل بمحبة الله لنا ورضاه علينا. إذهبوا إليه وتنعموا بمائدته واخشعوا وصلّوا لتكون هذه السنة 2019 سنة سلام بين كنائسنا ولأوطاننا بدءًا من لبنان ولشعوبنا، وسنة خير محبّة وشفاء لكلّ مريض، وسنة وحدة لعائلات مهدّدة بالتمزّق والتبعثر، وسنة يبطل فيها الفقر والعوز ويعيش الجميع بكراماتهم. ليكن فيكم الفكر الذي في المسيح يسوع. إجعلوا من فكر المسيح فكركم واتركوا دمه المسفوك على الصليب يسري في عروقكم لتحيوا به إلى الأبد. السنة الجديدة أن نحيا في الله وهو مصدر جدّتها، فيكون هو حياتنا، فنظهر معه في المجد العظيم. مع الدعاء بسنة حلوة وسعيدة للجميع.

  • شارك الخبر