hit counter script
شريط الأحداث

- سوسن أبوظهر*

مصر بينَ "أنْسَنَة الأمن" وغيابِ "الأمن الإنساني"

الجمعة ١٥ كانون الأول ٢٠١٨ - 04:58

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

إذا كانَ الأمنُ الإنساني يقومُ على ركيزةِ التحرر من الخوف، كيفَ يمكنُ الحديثُ عنه في بيئةٍ تخضعُ لسُلطة الخوفِ والقبضةِ الأمنية المُحكَمة وأحلامِ الثورةِ المُجهضَة؟ أيُ أمنٍ إنساني في ظلِ أمنٍ نافذٍ أكثر من المطلوبِ عادةً لسلامةِ الدولةِ والحدود، وحينَ يكونُ شبحُ التهديداتِ الإرهابيةِ ذريعةً للإجهازِ على ما تبقى من مجتمعٍ مدني؟

يقولُ معارضٌ مصري آثرَ عدم ذكرِ اسمه إنه لا بُدَّ من إنهاءِ تغييبِ سيادةِ القانون، لأنَّ "واحدَنا يجهلُ كيفَ يراهُ النظام وأيُ مصير ينتظره. قد نتعرضُ للاعتقالِ أو الإخفاءِ القسري والتصفية الجسدية. نحنُ في عصرِ خوفٍ رهيبٍ ومميتٍ لم يسبق له مثيل. نغيرُ مسارَ سيرِنا حين نلمحُ وجهاً مريباً خلفنا في الشارع، ونخشى التنصتَ والتجسس علينا عبرَ هواتِفنا المحمولةِ حتى بعد إقفالها. نحنُ أمامَ المجهول".
وفي هذا الإطارِ نقلت منظمةُ العفوِ الدولية في تقرير موسع عام 2016 عن ناشطين محليين أنَّ "ثلاثة إلى أربعة أشخاص في المعدل يوقَفون يومياً" ويُحتجزون لأشهر، ومنهم مَنْ لا يعودُ، وبعضهم أولادٌ في سن الرابعة عشرة. وبينَ 30 حزيران/يونيو 2013، وهو تاريخٌ دلالتُه معروفة، وآب/أغسطس 2017، أحصت حملة "أوقفوا الاختفاء القسري" التي أطلقتها "المفوضيةُ المصريةُ للحقوق والحريات" 1520 حالة إخفاء. وثمةَّ من ظهَرَ لاحقاً على شاشاتِ التلفزة يعترفُ، بارتباكٍ وهزالٍ بعد تعذيب، بالتخطيطِ لاعتداء، أو أُعلنَ اسمُه بين إرهابيين قُتلوا في سيناء. وكلُّ ذلك سيناريوات مركبةٌ ركيكةٌ لا تُقنعُ الناشطين والحقوقيين، وإنْ تكن تنجحُ في مدِّ سطوةِ الخوف. وهناك في شبه جزيرةِ سيناء انتهاكاتٌ غضَّ العالمُ الطَرفَ عنها بذريعةِ مكافحةِ التطرف العنيف. لا انترنت ولا هواتف، تهجيرٌ وتدمير للمنازل، وقتلٌ من دونِ محاكمات على أيدي عسكريين لم ينجُ منه الأطفال كما ظهَرَ في شريطِ فيديو سُرِّبَ في أيار/مايو الماضي.
ويخشى كثرٌ الانحدارَ إلى مزيدٍ من التضييق، خصوصاً مع إقرارِ قانونٍ يحمي عسكريينَ يُحددهم الرئيس مِنِ الملاحقةِ القضائية على ما ارتُكِبَ بينَ تعطيلِ العمل بالدستور من 3 تموز/يوليو 2013 حتى تاريخ انعقاد مجلس النواب الحالي في 10 كانون الثاني/يناير 2016. والحصانةُ هذه تحظرُ طبعاً أي مساءلةٍ لاحقةٍ تتعلقُ بالفضِّ الدموي لاعتصامَي ميدانَي "النهضة" و"رابعة العدوية" وما تلا من انتهاكاتٍ.
وتزامنَت حمايةُ الضباطِ الكبار مع تشديدِ الرقابة على الفضاء الالكتروني مِن خلال قانون "مكافحة جرائم تِقنية المعلومات" الذي رأى فيه ناشطونَ وصحافيون قمعاً للحرياتِ الرقمية وتهديداً لخصوصياتِ مستخدمي الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وحقهم في الوصول إلى الأنباءِ من مصادر مستقلة مصيرُها الحجب والمنع.
تلك الصورةُ المُظلمة للفضاءِ المُقفلِ في مصر التي يتحدثُ عنها باطراد مدافعون محليون عن حقوقِ الإنسان ومنظماتٌ حقوقيةٌ وإعلامية دولية في تقارير موثقة، لا تحجبُ نقاطَ نورٍ خافتة تخترقُ العتمة.
"المجتمعُ المدني محاصرٌ كلياً، بالتشريعات والرقابةِ البوليسية، وهو ميتٌ سريرياً، غيرَ أنَّه لا يزال ينتفضُ محاولاً النهوض متعالياً على جراحِ الضرباتِ القاضية للاضطلاعِ بدوره في استعادةِ سيادةِ القانون وحمايةِ الحريات الفردية"، على ما يؤكد المحامي خالد إمام العاملِ في الدفاع عن منظمات المجتمع المدني ومدير "البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان". ويضيفُ :"واجبُنا جميعاً عدم التوقفِ عن استغلالِ الإمكاناتِ القليلة الباقية لبناءِ وعي بشأنِ الأمنِ الإنساني ليكونَ الشبابُ، يوماً ما، جاهزين لتحقيقه وواعين بأهميته".
أيُ أمنٍ إنساني؟
لنعُدْ إذاً إلى محاورِ الأمنِ الإنساني وننطلق منها للإضاءةِ على واقعِه في مصر. مِنْ نافِل القولِ أنَّ الأزمةَ الاقتصاديةَ تهددُ الأمنَ الغذائي والصحي والمعيشي. ويتحدثُ إمام عن هجمةٍ للجوع واتساعِ الطبقة الفقيرة وعجزها عن دفعِ ثمنِ سلعٍ رخيصةٍ بالأساس، مشيراً إلى أنَّ "الجنيهَ الواحد صعبُ التحصيلِ أحياناً، والناسُ تتصارعُ على الرزقِ بما يجعلُ أي حقٍ أساسي للإنسان يتجاوزُ الحدَّ الأدنى من المأكلِ والمشربِ ضرباً من الترف. حتى التعليم كأنه من الكماليات، وكلفةُ الملابس المدرسية تزيدُ الأعباء وتساهمُ في زيادة التسرّبِ الدراسي معَ تراجعِ الاقتناعِ بفائدةِ التعلم والشهادات".
وبينما يعتَقَدُ أنَّ أعدادَ المُتخلينَ عن التعليم لأسبابٍ اقتصادية صارت بالملايين وإلى ارتفاع، جاء في تقرير التنمية الإنسانية العربية لعام 2016 المُعَنون "الشباب وآفاق التغيير" أنَّ الفقرَ والبطالةَ وارتفاعَ الأسعار هي التحدي الأول في رأي أكثر من 85 في المئة من الشبان المصريين. أضِفْ أنَّ وارداتِ قناة السويس الجديدة لم تأتِ بحجمِ التوقعاتِ والدعاية الرسمية التي صوَّرتها حلاً سحرياً لكبوةِ الاقتصاد. وساهمَ ضيقُ الحالِ في استيلاءِ العنفِ على العلاقات وتفكيكها، وتراجعِ الزيجاتِ وزيادةِ حالاتِ الطلاقِ، وصولاً إلى اعتبارِ "تومسون رويترز" القاهرة المدينةَ الأخطر على النساءِ في العالم من حيث التحرش الجنسي.
خيبةٌ تلو الأخرى عصفت بالمصريين منذ "25 يناير" التي تقاطعت عواملٌ عدة لتدجينها وإجهاضِ أحلامِها. ماذا عن ثورةٍ لتحقيقِ أمنٍ إنساني؟ لا يُحبذُ إمام التعبير. ربما فقدَت "الثورة" معناها أمامَ النظامِ العميق واليأسِ المجتمعي والمصالح الدولية التي تغاضت عن كلِّ ما أعقبَ إنهاءَ حُكمِ "الإخوان المسلمين". لكنه يؤكد أنَّ "الأمنَ الإنساني شبه المنعدم حاجةٌ حقوقيةٌ ملحةٌ وجامعةٌ بمختلفِ مجالاته لكل المواطنين".
الأمنُ الإنساني الفردي يعني بتعريفه الحماية من العنف المادي من طرَفِ دولةٍ أو جهاتٍ فاعلةٍ غير حكومية. وبإسقاطِه على الواقعِ المحلي يكونُ مظلةً حقوقية تقي من الإخفاء القسري والتوقيف بلا مسوغاتٍ قانونية. هو الأكثر إلحاحاً بينَ المحاورِ الأخرى لأنه يمهدُ السبيلَ لتحريرِ الأمنِ الإنساني مِن قبضة "الأمن" بمعناها العسكري الترهيبي. وثمةّ من يجزُم بضرورةِ أنْسَنةِ أجهزةِ الأمن المصرية، مِن الشُرطة إلى الجيش، بصرفِ النظرِ عن مفهومِ الأمنِ الإنساني نفسه، لاستعادةِ الآلياتِ الديموقراطية وسيادة القانون بالحدِّ الأدنى، بما يقودُ حتماً إلى الأمنِ السياسي.
أما الأمنُ الاقتصادي والغذائي والصحي فيختلفُ واقعُه بين القاهرةِ والأطراف، على ما يشيرُ إمام، متحدثاً عن "مصر الأخرى" خارج العاصمة "حيث كل شيء في مركزيةٍ شديدة". ففي الصعيد والأرياف لا يملكُ كثيرون سقفاً يُظلل رؤوسهم. وهناك أخفقت السياساتُ التربوية فبدا التعليمُ غيرَ ذي جدوى اقتصادية بالمقارنةِ معَ مردودِ عَمالةِ الأطفال.
وإذا كانَ الأمنُ البيئي قاسماً مشتركاً بين المحافظات، خصوصاً في شِقه المائي المتعلقِ بالحصصِ مِن نهرِ النيل، وذلك شأنٌ سيادي على تماسٍ مباشر مع معيشةِ المواطنين، فإنه في القاهرة وعشوائياتها أكثرُ التصاقاً باليومياتِ على خلفيةِ التلوثِ الثقيل.
أما في سيناء فيدخلُ في الأمنِ الفردي الحقُ في الإيواء بعد تدميرِ الممتلكات. ويشكلُ لمُّ الشملُ عنواناً للأمنِ المجتمعي في بيئةٍ تُفكَكُ تحتَ ذريعةِ مكافحةِ الإرهاب، وهو شعارٌ فضفاض يبررُ قضمَ الحقوقِ والحريات.
نسألُ إمام عن الحاجةِ إلى إصلاحٍ تشريعي يتضمنُ مفاهيم الأمن الإنساني، فيجيبُ أنه لا يُعوِّلُ كثيراً على النصوص بل على وجودِ إرادةٍ لتنفيذها، مكتفياً بالإشارةِ إلى أنَّ دستور العام 2014 كرَّسَ صيانةَ حرياتِ المواطنين واستقلال القضاء. ما فائدةُ القوانين لوْ بقيَت منسيةً في غبارِ الأدراجِ ولم تهتدِ بها السُلطات؟
أمنُ النساء... ورجال الدين
هل ثمَّة حاجة لأمنٍ إنساني خاصٍ بالنساءِ في مصر؟ "طبعاً"، يقولُ مُحدِّثنا، موضحاً أنَّ على "الأمنِ الإنساني مراعاة معايير الواقع الجندري. والنساءُ أكثرُ تأثراً بالإحباطِ والخوفِ اللذين ينعكسان اضطهاداً لهنَّ، سواء داخلَ المنازل بالتعنيفِ والحرمانِ من الميراث، أو خارجها في الشوارع حيثُ التحرشُ يكادُ لا يستثني أحداً". ويدعو إلى وضعِ خطةٍ واقعيةٍ لأمنٍ إنساني للمرأةِ المصرية. لا شكَّ أ‎نَّ ذلك يشملُ الأمانَ الجسديَ للنساءِ في الفضاءين الخاص والعام، خصوصاً الناشطات منهن والمناضلات الحقوقيات والمُدافعات عن حقوق الإنسان المهددات بمنع السفر وتجميدِ الأرصدة والملاحقات القضائية، إلى حماية الصغيرات من الخِتان والتزويج المُبكر.
يقودُ الحديثُ عن النساء إلى تأثيرِ بعضِ التفاسيرِ المجتزأة لنصوصٍ دينية وسطوة الأئمة، خصوصاً أنَّ مبرري التحرش الجنسي يزعمونَ أنَّ الأزياءَ "الفاضحة" تدفعُ الشبانَ المحبطين إلى مطاردة الفتيات. غيرَ أنَّ المحجبات لا يسلَمنَ هنَّ أيضاً من الأذى، مما يكشف تلقائياً زيفَ الاتجاهِ إلى تحميلِ ضحايا الاعتداءات الجنسية، اللفظية والجسدية، المسؤوليةَ عنها في إطارِ التبرئة المجتمعية لمرتكبيها. وعلى ذلك ردَّ الأزهر في بيان حاسمٍ صدر في آب/أغسطس الماضي بأنَّ "تجريمَ التحرشِ والمُتحرِش يجب أنْ يكونَ مطلقاً ومجرداً من أي شرطٍ أو سياقٍ، فتبريرُ التحرشِ بسلوك الفتاة أو ملابسها يعبِّر عن فهمٍ مغلوط لِما في التحرش من اعتداء على خصوصيةِ المرأة وحريتها وكرامتها"، مقراً بأنَّ "تحضُّرَ المجتمعاتِ ورقيها إنما يُقاسُ بما تحظى به النساءُ من احترامٍ وتأدب في المعاملة، وبما يتمتعنَ به مِن أمانٍ واستقرار وتقدير".
وتالياً، يجوزُ التساؤل، هل يهتمُ الأئمة، ومصر حاضنةُ الأزهر، بالمواءمة بين الأمنِ الإنساني والتعاليم الدينية؟
أكدَّ بحثٌ مطولٌ بعنوان "الأمن الإنساني: رؤية إسلامية" مرفقٌ بتقرير التنميةِ الإنسانية الخامس أنَّ "خطابَ الهويةِ الدينية لا يتنافى مع المسؤولياتِ الإنسانية المشتركة"، مشدداً على وجوب استنباطِ "رؤيةٍ إسلاميةٍ حضارية ذاتية شاملة لعناصر التجددِ الحضاري والأمنِ الإنساني". حسناً، ذاك كلامٌ عميقٌ قد لا يكونُ فعلياً أكثرَ من حبرٍ على ورق. فالمؤسسةُ الدينيةُ ليست مستقلةً عن النظام السياسي، ويعتقدُ معارضون أنها مِن أدواته لتطويعِ المواطنين بتقديسِ الحاكم وتبريرِ ضيق الحال بأنه ابتلاءٌ يسبقُ الفرج الآتي حتماً بعد الصبرِ والاحتسابِ وطاعة وليّ الأمر.
تلك حالُ المسلمين، فماذا عن الأقباط؟ يجيبُنا قبطي مصري بتساؤلٍ مضاد :"أيُ أمنٍ إنساني لنا إذا كنا نفتقدُ الأمنَ نفسه في كنائسنا وأرزاقنا وأرواحنا. لتَقُم المواطنةُ الجامعة والحُكم الرشيد فيتوفر الأمنُ الإنساني للمصريين جميعاً".
نعودُ حُكماً إلى نقطةِ البداية، إلى ركيزتَي الأمنِ الإنساني، التحررُ من الخوف، وهو هنا مِنَ النظام، والتحررُ من الصراعِ على لقمةِ العيش. وعليه يكونُ الأمنُ الإنساني سبيلاً نحو ديموقراطيةٍ محليةِ الآليات وحكمٍ مدني قوي بذاته بصرفِ النظرِ عن الأجهزة العسكرية، مع الإقرارِ بالدورِ التاريخي للجيش في مصر، منذ ثورة الضباط الأحرار عام 1952، وصولاً إلى امتلاكِه مؤسساته الخاصة وأذرِعه الاقتصادية. صحيحٌ أنَّ "25 يناير" لم تنتهِ بمصر إلى مآلِ سوريا وليبيا، لكنَّ البلادَ لم تجد بعد ما تنشدُه من الـ"عِيش (خبز)، حرية، عدالة اجتماعية" التي ضجَّ بها ميدان التحرير. تذكرونها؟ تلك عناوينُ الثورة زمان "الربيع العربي". فكروا فيها جيداً، أليست من مُكونات الأمن الإنساني؟


*سوسن أبوظهر - صحافيةٌ لبنانيةٌ متابِعةٌ لقضايا اللاجئين وبناء السلام
**هذا الموضوع كُتب بالتعاون مع "الشراكة الدولية للوقاية من النزاعات المسلحة" GPPAC و"البرنامج العربي لنشطاء حقوق الإنسان" من "شراكة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للوقاية من النزاعات المسلحة"
 

  • شارك الخبر