hit counter script

باقلامهم - بقلم جورج عبيد

هذا هو إلهنا، إنه المسيح الرب

الإثنين ١٥ كانون الأول ٢٠١٨ - 03:21

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

إنّه يسوع الناصريّ، وليد الحبّ الكثيف. من الآب كان في الأزل ومنذ الأزل كليم الله كما هو كلمته، به كان كلّ شيء، وبغيره لم يكن شيء ممّا كوّن. ولمّا حان ملء الزمان، أي كماله، قال الآب الكلمة جسدًا. أنزله في بطن امرأة، تحت الناموس ليصير بدوره تحت الناموس لننال التبنّي. أي لنصير أبناء الله، ولم نعد أبناء لإبراهيم في الذريّة أو في أيّ إسقاط آخر. لقد ممكنًا ما لم يكن ممكنًا في تاريخ الحضارات والثقافات والأديان، أن تقول لله يا أبي، أن تناديه "أبّا" أو يا "بابا" كما تنادي أباك. ذلك أنّ الله كان محجوبًا فوق، لا يرى ولا يحسّ به، أمّا بالمسيح يسوع فقد رأينا الآب في عراء ابنه وامتداد العراء من مذبح الميلاد في بيت لحم إلى مذبح الجلجلة فوق تلّة أورشليم، والمذبح هو الرحم الذي ربح الإنسان بنوّته لله بالدم السكيب.
ثورة الثورات في التاريخ، كلّ التاريخ، قديمه وحديثه، أن الله تجسّد، الكلمة صار جسدًا. لقد بطل ما هو قديم بسعيه الفكريّ والفلسفيّ إلى الله، فهو الذي عند أفلاطون "يحرّك ولا يتحرّك، يخلق ولا يولد"، إنّه منذ الأزل وإلى الأبد، سيّد على الخليقة، إله السماوات والأرض. أمّا في الميلاد "فالله معنا، أي عمانوئيل". تمتم الله نفسه في إرمياء وأشعياء النبيين، "هالعذراء تحبل وتلد ابنًا ويدعى اسمه عمانوئيّل أي الله معنا". لم يعد الله إله السماوات والأرض فقط، بل هو معنا في الجوهر ومن ثمّ في الحضور أي التجسّد. تلك هي "ثورة الثورات في التاريخ"، وهذا هو الانقلاب على التاريخ كلّه بثقافاته المتشعبة وأساطيره المختلفة وعباداته الصامتة. إذ كيف يمكن لله أن يولد في التاريخ وفي أحشائه ويصير أزمنة الناس مرميًّا على سرير من قشّ، وفي مذود مظلم؟ "الإله الذي ثبّت السماوات يولد في مذود، الذي أمطر للشعب منًّا يغتذي من الثديين لبنًا". وتأتي آية عظمى عند أشعياء لتقول، إنّ الشعب السالك في الظلمة أبصر نورًا عظيمًا والجالسون في ظلال الموت وظلمته أشرق عليهم نور". لقد رماه نفسه في بطن امرأة، هي مريم القديسة والدة الإله بالحقيقة، بلا مشيئة رجل، وفي كمال الزمان ولد في أرض ظامئة للضياء ولنهر ماء الحياة يرويها ببلوريته فلا يعطش الشعب، لأنّ هذا الآتي سيعطينا ماء الحياة الأبديّة من ملء عينيه حتى جنبه الذي طعن بحربة.
قبل كمال الثورة بهذا الانقلاب العجيب، كان المسيح قائمًا وموجودًا. كلمنا الله به، كما به خلق العالم، إذ قال ليكن فكان. بولس الرسول في رسالته إل العبرانيين كتب: "إنّ الله بعدما كلم الآباء بالأنبياء، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثًا لكلّ شيء، الذي به صنع
الدهور، الذي وهو بهاء مجده ورسم جوهره وحامل الأشياء بكلمة قدرته، بعدما صنع لنفسه تطهيرًا لخطايانا جلس عن يمين الجلال في الأعالي، صائرًا أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسمًا أفضل منهم، لأنّه لمن من الملائكة قال قطّ أنت ابني وأنا اليوم ولدتك، وأيضًا أنا أكون له ابنًا وهو يكون لي ابنًا" (عب1:1-5). يشير بولس بأن المسيح كان بكليّته لصيقًا بتاريخ البشرية، في سريانه وهو جنين الإنسانية بامتداداتها وتفرعاتها. إنّه جنين إلهيّ تحرّك ويتحرّك بها وقد حركها بكلمات تطقت بها الحضارات والثقافات بإلهام تساقط فيها، بلمحات ظهرت في تعرجاتها، بلمعات شعت في منحنياتها، بمساحات برزت التجليات فيها. لم يكن الله بمسيحه شريدًا فوقها ولا غائبًا هنها ولا مجهولاً من فلاسفتها. لقد التمسوه شيئًا فشيئًا بتوارد هنا وثمّة. لكن لم يصدّق احد أن طفلاً سيولد عاريًا محتاجًا لدفء سيكون هو الله، أنا هو، وهو أنا. سيقفز من جديد فوق كل تاريخ وخليقة، فوق الجراح والدمل، فوق كل معطوبية وندوب، ليجعلها في جسده الطريّ، ويكلم الناس بنفسه. لا هيرودوس صدّق، وحدهم المجوس وملوك المشرق والرعاة الآتي من بعيد، أي من خارج ملّة اليهود، صدّقوا لمّا راوا النجم ساطعًا فوق المذود، فأتوا إليه بالهدايا، اي باللبان والمرّ والذهب. اغتاظ هيرودوس وجنّ جنونه فقرّر قتله، ولمّا لم يخبروه عن مكان ولادته أرسل الجند فقتلوا صبية بيت لحم، قتلوا الطفولة فيها ومزّقوها.
واستمرّ الله يكلّمنا بابنه. في التجسّد صار الكلمة جسدًا. لكنّ موت الابن كان هو كل الكلام كلّ الشريعة. في ولادته كان هيرودس يبحث عنه ليقتله، وفي اللحظات الذروة، قرّر أبناء جلدته أن ينتهوا منه لأته قال، أنا هو اين الله. تجرّأ وتجاسر وقال أنا هو من تبحثون عنه مخلّصًا. أنه هو المسيح مخلّص العالم. لم يصدّقوا علمًا أنّه لا كان موجودًا في كتبهم، وهو من كلّمهم بأنبيائهم وأخبرهم عن ولادته ومجيئه. كان أبوه يعرف أنهم لن يعرفوه، وحتّى يعرفوه يجب أن يشفي أمراضهم وعاهاتهم وينهض أمواتهم ويقذفي في صدورهم نورًا ليشعّ من عيونهم. فوق نهر الأردن وعلى جبل التجلّي قال: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت فله اسمعوا، ومع ذلك لم يصدّقوا. رأوه مستربلاً النور كالثوب فخشوا، لأنّ هذا لم يحدثهم عن خلاصهم القوميّ والشعوبيّ، ولم يثبّت لهم ملكًا في التاريخ، ولم يعلن أسيادًا على شعوب الأرض. بل قام بنقض كل المفاهيم السياسية عندهم، وأراد أن يحررهم من حروفية الشريعة. لم يطيقوا أن يكون المسيح وليد الإنسانية كلّها راقدًا في ليل ثقافاتها وأديانها، وجاذبًا إيّاها إلى ذاته. تآمروا عليه حتى علقوه على الخشبة. إنه طريح الآلام والبكاء من من مذبح بيت لحم إلى مذبح الصليب، فكان موته الكلمة النهائيّة التي منها ولدت الإنسانية الجديدة، المسيح ولد على الصليب كاملا منيرًا وبداءة الولادة كانت في بيت لحم.
إنه يسوع الناصريّ، ابن الله وابن مريم في الحبّ. يستحقّ من أعطانا حياته حياة لنا أن نخلص له ونسير بهداه. ليس لنا إله سواه أجبنا حتى الموت موت الصليب، وفي الكتاب أطاع حتى الموت موت الصليب، من بعد ولد بهيئة عبد صائرًا بشبهنا، كما كتب بولس في رسالته إل أهل فيليبي. هل نعصى محبة الناصريّ الحبيب؟ هذا سؤال مطروح على كلّ من تسمى به وصار المسيح هويته الحقيقيّة. ففي رسالة بولس لأهل كولوسي كتب: "متى ظهر المسيح الذي هو حياتنا، حينئذ تظهرون معه في المجد" جاء حياة لكل فرد منّا، التصق بنا وسكب دمه في دمنا حتى لا نموت. والدم هو الحياة. صارت حياته فينا، ولأجل هذه الحياة الشهادة بالدم، إذ كما قال الحلاّج: "ركعتان في العشق لا يسوغ الوضوء بعدهما إلاّ بالدم". متى نرى المسيح في هذا العياد في وكل اعيادنا حياة لنا؟
صديقي الكبير عماد جوديّة قال لي مرّة وهو على حقّ: "اليهود يكرهوننا لأننا نذكرهم بإثمهم وإجرامهم الكونيّ نذكّرهم بأنهم قتلوا المسيح"، فزدت عليه، ويذكرهم فصحنا بغلبة المسيح على إثمهم ولهذا شاؤوا أن يغيّبوه ويضللوا الناس ويقولوا لهم إنه لم يقم بل جاء تلاميذه ليلاً وسرقوه. لماذا نريد خيانة الحقيقة ولا نقف مع المسيح في مشرق ملبّد؟ لم يعط لنا مشرق من تراب وصخور وجغرافيا، بل أعطي لنا المسيح مشرق المشارق، صهر الجغرافيا بجسده، ما أصاب المشرق أصابه بالصميم. المسيح موجوع لأجلنا فهل يستحق الخيانة؟
ميلاده يدفعنا لنقول إخلاصنا له بأمانة، أعطانا نفسه حياة. فلا تجعلوا من هذا العيد مسرحًا لشهواتكم ثم تنسون أنّه قد ولد لنا صبيّ جديد، ونولي وجوهنا للغرب ونرتحل عن حقيقتنا. لقد ولد لنا صبيّ جديد من رحم المشرق، وأعطي اسمًا بفوق كلّ اسم لكي تجثو له كلّ ركبة مما في السماء وعلى الأرض وما تحت الأرض. لا تتركوه وحيدًا شريدًا متأوّهًا. أضواء العيد في المدن والقرى يجب ان تظهر أن المسيح نورنا، وليس دمية نتسلّى بها إلى حين. سلّموا به أخلصوا له، إلى أن ترثوه في المجد الأزليّ، فيفرح بكم على الأرض مولودين منه وفي مجد أبيه قامات من نور.
هذا هو إلهنا، إنه المسيح الرب وليدنا جميعًا، فالمجد والعزّة له إلى أبد الدهور، آمين.

  • شارك الخبر