hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

الأزمة الروسية - الغربيّة من البوابة الأرثوذكسيّة

الثلاثاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٨ - 06:11

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قبيل حلول عيد آباء المجمع المسكوني السابع المعروف بـ"مجمع نيقية" الذي توليه الكنيسة الأرثوذكسية أهمّية خاصة لأنّه أعاد الاعتبار إلى الأيقونات، دخلت مسألة كنسيّة حلبة الصراع العالمي على السلطة. إجتمع المجمع القسطنطيني برئاسة البطريرك المسكوني برثلماوس في الفنار ما بين التاسع والحادي عشر من شهر تشرين الأوّل الحالي. وأصدر عدداً من القرارات في المسألة الأوكرانيّة اعتُبِرَت بمثابة زلزال كنسي. يمكن اختصارها بما يأتي:
أوّلاً، تجديد قرار الشروع بالتدابير اللازمة لانفصال أوكرانيا عن الكنيسة الأم.
ثانياً، إعادة إنشاء ممثّلية للبطريركيّة المسكونيّة في كييف.
ثالثاً، الاعتراف بأسقفية فيلاريت ومكاري وأتباعهما، اللتين وجدتا نفسيهما منشقّتين عن الكنيسة لأسباب غير عقائدية. وإعادة الشركة معهما ومع أتباعهما.
رابعاً، إلغاء مفاعيل رسالة المجمع القسطنطيني الصادرة بتاريخ 1686 والتي كانت لظروف محدّدة، وقد تمّ لبطريرك موسكو بموجبها حق شرطنة مطران كييف.
خامساً، نداء إلى جميع الأطراف لتجنّب الاستيلاء على الكنائس والأديار والممتلكات وتجنّب كل أعمال العنف والانتقام كي يبان سلام ومحبّة المسيح.
وقد سبق قرارات المجمع القسطنطيني بيان لوزارة الخارجيّة الأميركيّة بتاريخ 25 أيلول من العام الحالي، دعمت من خلاله الولايات حق حرية العبادة، وحق أعضاء الجماعات بإدارة شؤون دياناتهم بما يتوافق مع إيمانهم، وممارسة شعائرهم بحرّية من دون تدخّل حكومي. واعتبر البيان المذكور أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تثق بقدرات القادة الروحيّين الأرثوذكس في أوكرانيا ومؤيديهم في استكمال تدابير الانفصال، وفق قناعاتهم.
وعبّر البيان عن احترامه للبطريرك المسكوني الذي اعتبره طريق التسامح والحوار ما بين الأديان. كما تمّ تأكيد دعم الولايات المتحدة الثابت لأوكرانيا وسيادتها على كامل أراضيها في وجه الاعتداء الروسي لشرقي البلاد، واحتلال جزر القرم. وختم البيان بدعم أوكرانيا التي ترسم طريقها وتأخذ قراراتها وتشبك شراكتها من دون تدخّل أجنبي.
وبتاريخ 12 تشرين الأول نشرت وكالة الأنباء الروسيّة خبراً عن نشاطات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وقد ورد فيه أنّ الرئيس الروسي اجتمع بممّثلي بلاده في مجلس الأمن، بحضور رئيس مجلس الوزراء الروسي ورئيس مجلس الدوما وأركان دولته وقد تمّ تبادل وجهات النظر بما يتعلق بالوضع المتعلق بالكنيسة الروسية في أوكرانيا بعد قرار بطريرك القسطنطينية المسكوني المزعج".
هذا وقد اقرّ مجمع الكنيسة الروسية الذي التأم اليوم لمناقشة ما اعتبره تعدياً على الكنيسة الروسية قرار قطع الشركة مع كنيسة القسطنطينية.
جملة ما ورد يثير عدداً من التساؤلات حيال الأزمة التي تعود جذورها إلى زمن جوزف ستالين وأساليبه في التعاطي مع شعوب الاتحاد السوفياتي ومعتقداتهم، بحيث انه خلق ردود فعل ما زالت تتحكّم بالساحة الكنسيّة الى اليوم.
الأزمة ليست وليدة اليوم. كما أنّ عدم جودة العلاقة ما بين القسطنطينيّة وموسكو ليست وليدة الأزمة. فبطريرك موسكو تيخون، الذي أُعلِنَت قداسته في روسيا، لم يكن مرتاحاً كثيراً لكيفيّة تعاطي القسطنطينية مع أبنائه ومشكلاتهم منذ عشرينات القرن العشرين.
من أهم أبطال الأزمة الحالية بالإضافة إلى الكلّي القداسة البطريرك المسكوني، المطران المنشق Filaret Denisenko الذي أعلنه بعضهم بطريركاً على أوكرنيا بعد أنْ تبنّى قضية الانفصال عن الكنيسة الروسية الأم. وقد كان من أقرب المقرّبين إلى بطريرك موسكو الراحل ألكسي. ومن المعروف أنّه قد ترشّح لخلافته إلا أنّ الحظ لم يحالفه.
مما لا شك فيه أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة تمرّ في أحلك ظروفها. فالشركة ما بين عدد من البطريركيات مقطوعة وآخرها كان قطع الشركة بين روسيا والقسطنطينيّة هذا المساء. ما جرى ويجري يطرح عدداً من التساؤلات حول علاقة السياسة بالكنيسة والكنيسة بالحكّام والأجندات السياسية، وحول كيفيّة إدارة كنيسة مجمعيّة الطابع، وحول أدوار "الأوّل بين متساوين"، وكيفيّة انعكاس سوء أدائه ودعوته السياسة إلى الكنيسة على أحوال الكنيسة. وكيفيّة استغلال دول القرار للخلافات الكنسيّة لتحقيق مآرب وأجندات دولية. فأوكرانيا كانت ومازالت بالنسبة الى الروس البوابة التي يتسلّل عبرها النور والخطر. فعبرها أتى نور المسيحيّة إليهم ومن خلالها دخل هتلر أرضهم. هي بالنسبة إليهم مهد حضارتهم وأساس شعبهم. وهم لا يريدون للغرب أنْ ينال منهم عبر بوابتها.
لقد نجح الكلي القداسة في السياسة التكتية بلغة هذا العصر، فأمسك بالورقة الغربيّة وباشر تدابير انفصال كنيسة أوكرنيا عن روسيا، من دون أن يستكملها. دخل الكلّي القداسة إلى أوكرانيا مجدّداً من بوابة الأزمة، متسلّحاً بنبش قرارات تاريخيّة وباستعادة حقوق صارت لكنيسة روسيا مكتسبات. أبلغ الغرب ذلك وأنّه وحده القادر على التصدي لتمدّد النفوذ الروسي من البوابة الروحيّة والكنسية الأرثوذكسية. فأدخل الكنيسة في حرب باردة جديدة بشكل مكشوف شكل هو أحد أبطالها. لكن نبش التاريخ له محاذيره الكثيرة.
إلا أنّه وبشكل مواز نجح في جعل العالم الأرثوذكسي بالعموم وحتى الإغريقي على استعداد لمواجهته. فقد فشل في حل الخلافات التي تطوّرت بتدخّله إلى أزمات. نجح في جعل الكثير من المؤسّسات الكنسيّة تستنفر لبدء مواجهة المشروع الذي يمثّله، ألا وهو الاستفراد بالقرار في الكنيسة الارثوذكسية وإدخال الروح العالمية اليها.
لكن هل نظر الكليّ القداسة بعقل متكّئ على القلب، أم بعقل تجريدي وسياسي إلى الأمور؟ وهل يدرك الكلّي القداسة، "الأوّل ما بين متساوين" الذي يعتبر بأنّ بطريركيّته تمثّل الروح الأرثوذكسيّة، أنّ الروح قد هجرت إلى حيث الشعب مضى؟ ماذا سيحصل بالتحديد إذا حصلت تسوية ما بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس التركي رجب طيّب إردوغان في شأن مواضيع عدّة ومن ضمن تلك السلة البطريركية المسكونيّة؟ هل يعلم بأنّ أداءه أضحى يطرح تساؤلات حول الغاية من وجود مؤسسته ودورها وجودتها؟
لكن ما حصل يشكّل رسالة ليس فقط باتجاهه بل في كل الاتجاهات. فالقسطنطينية سقطت كي تسقط سطوة السياسة عن الدين. وكي يعود ما لقيصر لقيصر، وما لله لله.
مازلت أتأمل في ان تتمخّض الأزمة الجديدة عن إعادة ولادة للكنيسة الأرثوذكسية. ما زلت أتأمّل في اجتماع أصحاب القداسة والغبطة والسيادة لإعادة الأمور إلى نصابها. آمل أنْ تشكّل الأزمة استفاقة للروح المجمعيّة، روح المشورة والتلاقي وحوار الأخوّة واستلهام الروح القدس بالتوبة لا استلهام الروح العالميّة والساسة. فعربة الكنيسة الأرثوذكسية تقع في كل مرة يحاول أحد التفرد بقيادتها.
آمل أنْ تشكّل الأزمة انطلاق مشروع جديد لكنيسة أرثوذكسيّة تتمسّك بروحيتها وتحاكي العالم من دون أنْ تدعو الروح العالميّة إلى ساحتها.
وفي عيد أحد آباء المجمع المسكوني السابع أتوجّه إلى الرب سائلاً أنْ يبقى في وسط كنيسته فلا تتزعزع. وأنْ يدجن المؤسّسات الكنسيّة لحساب كنيسته الرسولية الجامعة. فلا تعصف بنا القبليّات والشقاقات والخلافات. أسأله أنْ يُكثِر الآباء ويقلّل السلاطين والمرجعيّات كي نسلم في زمن العثرات والعولمة والخلافات.
 

  • شارك الخبر