hit counter script

مقالات مختارة - صلاح سالم - الحياة

السلفيّة قد تكون علمانيّة أيضاً

الأحد ١٥ أيلول ٢٠١٨ - 06:14

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لعل فيلسوف الأديان مرسيا إلياد هو صاحب أكثر التفسيرات عمقاً لأسطورة «العود الأبدي» من زاوية علاقة الإنسان بالمقدس، فلديه أن الإنسان غالباً ما يعتقد بوجود زمن أصلي، زمن البدايات الذي فيه خُلق كل شيء، ومنه بدأ كل شيء: الكون والتاريخ والإنسان، ومن ثم كان تبجيل الحضارات القديمة والشعوب العتيقة لهذا الزمن، فتصير احتفالاتهم به أعياداً مقدسة، يستحضرون فيها ذكرى البدايات وأصول الحكايات التي تروى عن لقاء الإنسان (العادي) مع الإله (القدسي).

تفسر هذه الأسطورة إشكالية «الأصالة» التي شغلت تاريخنا الفكري الحديث، وتحولت عند المهجوسين بها إلى مرض عصابي، حاول بعض مفكرينا التصدي له من طريق موازنة الأصالة بالمعاصرة، خروجاً من أسر تلك الرغبة المحمومة في العودة إلى زمن كان كل شيء فيه جيداً، وكل إنسان خيراً، على رغم أن ما من زمن، أياً كان، كان على هذا القدر من النقاء، وأن ثمة خبرات تتناقض دائماً مع تلك الصورة الزاهية، وإن اعتبرها هؤلاء محض تفاصيل صغيرة، ووقائع استثنائية لا يمكن أن تنال منها، أو تحول دون جاذبيتها.

فالسلفيون التقليديون، مثلاً، يذكرون عهد المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار دليلاً على سمو الرعيل الأول من المسلمين، وعلى نورانية مجتمع المدينة، والعهد ذاك واقعة تاريخية تكاد تشهد إجماعاً حولها، صنعتها من دون شك روحانية متوهجة لدين جديد تتجاوز دافعية كل ما أنتجته الفلسفات السابقة لها من أفكار، وأنظمة الفكر اللاحقة عليها من مثالىات، إلى درجة أخذت بألباب الناس وأفئدتهم. غير أن هؤلاء السلفيين أنفسهم، في المقابل، لا يتذكرون قط أن صحابة الرسول الكريم، بعد وقت غير طويل، سوف يتنابذون بالألقاب ويقاربون حد الفتنة بحيث أمرهم الرسول بأن يدَعوها لأنها منتنة. بل إن هؤلاء الصحابة أنفسهم سوف يختلفون بمجرد أن يلقى النبي الأمين وجه ربه الكريم حول من يليه في إمارتهم، وأن ثلاثة من بين الخلفاء الأربعة الراشدين قد قتلوا: إما غيلة من رجل مارق كما حدث للفاروق عمر بن الخطاب، أعدل حكام الزمان، وإما في سياق الصراع على السلطة، حيث أراق بعض الصحابة دماء البعض الآخر، كما وقع إبان الفتنة الكبرى للخليفة الثالث عثمان بن عفان، أو إبان التمرد الأموي على خلافة علي بن أبي طالب وهو من هو في تاريخ الإسلام وبيت النبوة، بل إن القرآن الكريم نفسه سيوظّف كجزء من خطة السياسة التي مارسها عمرو بن العاص لمصلحة معاوية وضد علي ووليه أبي موسي الأشعري، الأمر الذي فتح الباب لحروب وثارات وتشققات مذهبية وكلامية لم تتوقف بطول التاريخ.

غير أن الإسلاميين ليسوا وحدهم أسرى كهف الماضي، فالمرض ذاته قد يصيب بعض أرباب الحداثة وأئمة العلمانية، أولئك الذين طالما انتقدوا التقليديين، ووصموهم بالعيش في جلباب الأسلاف، فإذا بهم أنفسهم يعيشون في جلباب أسلاف آخرين وإن كانوا مختلفين، يتمركزون في جغرافيا متباينة (أوروبا)، ويشغلون تاريخاً مغايراً (الغربي)، ويختزنون تجارب مختلفة (الحداثة). لا نقصد هنا إلى القول أن الحداثة غريبة عنا، أو أن القطيعة معها موقف إيجابي، بل نقصد إلى قول العكس ولكن مع تصديق ما نقول والسلوك على أساسه. فالحداثة في اعتقادي تجربة إنسانية بقدر كونية العقل البشري، وعمومية الأخلاق الإنسانية. ما أقصده بالضبط هو أن للحداثة تاريخاً وسياقات، كما أنها مرت بمراحل وعاشت تحولات، وأن امتلاكها الفعلي يعني الوعي بشروط ومسارات تلك التحولات، والتكيف معها وكذلك المساهمة في صنعها، أما الوقوف أمامها موقف الداعية المنبهر فلا يعدو أن يكون إهداراً جوهرياً لها، بقدر ما أن الرفض القاصر يمثل إهداراً ظاهراً. فمثلاً، ليس منطقياً أن نتبنى بعض أشكال الحداثة المتصلبة بشراسة بادية في وقت يكون جل أهلها قد هجروا تلك الأشكال إلى أخرى أكثر اعتدالاً. ففي مطلع القرن العشرين، أي بعد رحيل كانط بنحو قرن، وهيغل بسبعة عقود، وكان كلاهما قد دافع في شكل أو في آخر عن الإيمان الروحي، وفي وقت كان التصور الدارويني الكاسح شتى مجالات الفكر الإنساني يتراجع عن سطوته، وكانت النزعات التاريخانية القائلة بحتمية التقدم المادي تبدي تنازلات أمام فهم فيلهلم دلتاي التأويلي والروحي للتاريخ، كان سلامة موسى من داخل الفضاء الثقافي العربي - الإسلامي (ولا قيمة هنا لكونه مسيحي الديانة)، لا يزال يدافع عن الرؤى الأكثر سلفية في تجربة الحداثة ذلتها، محيلاً الغرب مرجعاً تُقاس عليه عموم أحوالنا، جاعلاً من نظرية التطور «العلمية» ديناً وأيديولوجيا في الوقت ذاته. وهكذا كان موسى سلفياً في الحقيقة وإن كان أسلافه غربيين، مثلما كان إسماعيل مظهر سلفياً وإن كان ملهموه هم الداروينوين، بالقدر ذاته الذي كان فيه نظراؤهم من قبيل محمد رشيد رضا وحسن البنا سلفيين، على رغم اختلاف القبلة، وتباين اسم الكهف، بين عرب مسلمين مسرفين في القدامة، وبين أوروبيين غربيين مسرفين في الحداثة. بل إن بعض العلمانيين العرب حتى الىوم لا يكادون يرون للعلمانية تجسيداً يتجاوز النموذج الفرنسي/ الىعقوبي الذي ساد مناخ الثورة الفرنسية، خصوصاُ في عهد الإرهاب (1789 - 1794) وسمح بإحالة بعض الكنائس، خصوصاً في باريس وما حولها إلى مراقص وحانات كنوع من الانتقام من الكاثوليكية وتحالفاتها مع الإقطاع ضد ما سمّي آنذاك الطبقة الثالثة، أو عموم الفرنسيين خارج طبقتي رجال الدين والنبلاء، فيما يعجز هؤلاء عن ملاحظة التجربة الفرنسية نفسها بعد تولي نابليون الحكم لجهة إعادة الاعتبار إلى معظم رجال الكهنوت الذين فصلوا من وظائفهم، وأخيراً صدور قوانين عام 1905 التي أسست للفصل النهائي بين الدولة والكنيسة على قاعدة التخصيص والاحترام. وهذا ناهيك بالطبع عن النموذج الإنكليزي الأكثر تسامحاً منذ البداية، إذ تأسس على قاعدة التكامل بين الدين والدولة، واحترام الأعراف المسيحية في شتى جوانب الحياة الاجتماعية، بل جعل من الملكة رأساً للكنيسة في الآن ذاته. وبين النموذجين يقف النموذج الألماني الذي ينهض على قاعدة الفصل الناعم والمرونة الشديدة بين المسيحية الحضارية، وبين الأعراف الدستورية.

ما نود قوله هنا هو أن مجتمعاتنا التي تعاني اليوم من سياسات الأرض المحترقة بالعنف، تحتاج من جميع المفكرين والمجتهدين إلى الخروج من مدارات وعيهم المغلق إلى فضاء النقد التاريخي، ولكن من دون انتقائية لتوجه أيديولوجي معين أو تحيز لزمن ثقافي بذاته.
 

صلاح سالم - الحياة

  • شارك الخبر