hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

الإمام موسى الصدر في غيابه: "أنتم أيها السياسيون آفة لبنان وبلاؤه"

الجمعة ١٥ آب ٢٠١٨ - 12:27

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

روى المطران العلاّمة والحبيب جورج خضر كيف أن الإمام المغيّب موسى الصدر زاره في برمانا خلال اللحظة التأسيسيّة لحركة المحرومين، وما إن دخل، حتى خلع عمامته السوداء وجلس في الدار واحتسى الشاي. هنيهات وبدأ البحث في الوثيقة التأسيسيّة للحركة والمفترض كتابتها بأفكارها وجدليتها الاجتماعية والسياسيّة والاقتصاديّة، من أجل رفع الحرمان عن كلّ فقير في لبنان من كلّ اللبنانيين وليس عن فئة مذهبية من الفقراء. أمضى الإمام زهاء أربع ساعات ونيّف إلى أن انتهى وإياه من كتابة الوثيقة، فصدرت من برمانا وأمست دستور الحركة.

كان للمطران جورج أن يلتقي بموسى الصدر للمرة الأولى في الندوة اللبنانيّة مع مؤسسها ميشال أسمر، وقد ضمّت نخبة من أرقى الشخصيات الفكرية والثقافية في لبنان والعالم العربيّ. خرج هؤلاء من رحم الطائفيات إلى مساحة الحياة وعملوا معًا عل توطيد الآفاق الحركيّة عند الجميع كمحاولة لتحرير الأديان من قيد الطائفيات، وجعلها تدرك أنها وليدة الله الواحد من أجل البشر وليست وليد البشر من أجل البشر. فالله ينعطف على جبلته البشريّة بكلمة من هنا وكلمات من هناك، يجزل العالم برحمانيته الواسعة ويضمّهم بالمحبة الواحدة إلى قلبه وحضنه.

هذه الصورة عينًا جعلت إمامنا يلتقي مع مطراننا لتنشأ بينهما صداقة عمر عميقة لم تشبها شائبة، ولم تمنى بعطب. كان الوجه إلى الوجه، واهتمّا معًا بكيفيّة جعل الله يتحرك في التاريخ، أو جعل التاريخ يولد منه على صورته ومثاله. فالله عندهما أحبّ الفقير وعطف عليه، وجعل نفسه خبز حياة. فإن لم يكن الله للإنسان فإنه بائد لا محال. موسى الصدر مع جورج خضر ويواكيم مبارك وغريغوار حداد وبيار حلو وحسن صعب وحسين الحسيني وغسان تويني وشارل حلو وميشال إدّة التقوا على هذا المبدأ، وقد افترضوا أنه يجب استنزاله في القوالب الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية... إذ ممنوع أن نبقى أسرى الظلم والفقر والفاقة، والأسمى في الحياة البشريّة أن تعلّى الكرامة البشريّة وتضمّد من أي هتك وجرح.
بحثوا في الأفكار والمبادئ والآليات وخرجوا إلى الناس بأنماط جديدة لم تكن في محطات كثيرة من الحياة السياسيّة مألوفة بعد. فقد كانت الحياة السياسيّة اللبنانيّة متمرّسة على الرتابة، تسوسها مجموعة إقطاعيين وسياسيين تقليديين لم يعيشوا الفقر المدقع، بل على العكس كانوا يمعنون بأن يتركوا شعوبهم فريسة الجهل والتخلّف، فيقتاتون من خيرات الأرض وإنتاج الفكر على ظهورهم فيبطل بذا كلّ إبداع وخلق. ميزة الإمام الراحل أنّه كسر وللمرّة الأولى تلك الأدبيات البائدة وأطلق العنان من أجل اقتحام الناس المستقبلات المقبلة وتذوق الخيرات الآتية. فالمعرفة والفكر عنده ليسا حكرًا على طبقة وممنوعة على أخرى، هذا خير الناس، وخير الله في الناس، وهو مسكوب في العقل البشريّ للإلهام والاستلهام للعطاء والسطوع.

من هذه الزاوية اكتنز موسى الصدر القيادة والريادة. وللأمانة لم يشأ الرجل أن ينغلق البتّة في بوتقة طائفيّة ومذهبيّة ضيّقة، ولم يكن واردًا أن يتساكن والحروفيات النافرة التي ألفناها في هذا الزمن، ولم تكن "إلفتنا" معها محصورة في الحرب السوريّة بل منذ لحظة انبثاث الفكر السلفيّ الأصوليّ، وكان رضوان السيد يسميه بالإحيائيّ، إلى أن ارتقى وتحوّل بفصائله إلى تكفيريّ في الحرب السوريّة-العراقيّة الأخيرة. لقد ألفنا تلك الأنماط ولم نتساكن معها، ولم ينبذها الجانب المسيحيّ حصرًا بقدر ما نبذها المسلمون الذائقون لسلام الله ورضوانه والمتمتّعون "بالإسلام القرآني" المتلاقي مع كلّ آخر في الإنسانية. ولذلك لم ينطلق إمامنا المغيّب من الحاضرة الشيعيّة ليعود إليها وينكبّ فيها حصرًا. بل انطلق منها إلى الإنسانية بأبعادها الكونية، ليرتوي من ينابيعها الصافية ويقولها قولاً حلالاً في الحقّ وبالحقّ. وإذا ساغ التوصيف، فإنّ أروع ما يقال عن موسى الصدر، أنّه كان إمام المسيحيين، حيث دخل كنائسهم بحب، عاين يسوع أو عيسى المسيح معلّقًا على الخشبة، وقف تحته في كنيسة الكبوشيين في باب إدريس وحاضرعن الصيام، تعامل مع آلام المسيح كما تعامل مع كربلاء الحسين وشهادته، ذاق كلماته واشتمّ رحيق قداسته كما ذاق بلاغة أمير المؤمنين الإمام عليّ بن ابي طالب، ورأى سماحته بحبّ كبير ما رأيناه منذ سنة 2003 حين رددنا على صموييل هانتنغتون في كلامه عن صدام الحضارات والأديان ، "بأن الله لا يتصارع مع نفسه، وإن تصارع مع نفسه تمزّق، وإن تمزّق مات، وإن مات هو مات التاريخ وترمّد العالم".

آمن إمامنا العظيم بوحدانية الله في خلقه وفي تنوّع أديانهم والطقوس. وآمن بدوره بأن تلك الوحدانية تنزل بردًا وسلامًا على تراب لبنان وشعبه، ككيان فريد وراق لا يشبهه كيان ولا يتشبه بدوره بأي كيانات أخرى صغيرة أو كبيرة، وهذا الاستنزال الكريم من شأنه أن يصهر الناس فيما بينهم من الشمال إلى الجنوب، ومن الساحل إلى الجبل وصولاً إلى كل حدود، كما يصهر الحديد بالنار، ليكون لهم سلام في نظام يتشاركون في صناعته وفق أنموذج ميثاقيّ يكون حسن التأليف، فاللبنانية والعروبة والمشرقيّة لا تنفصل عراها عن هذا التأليف الحسن، إذا سمت أن تخاطب أوروبا بحضارتها وإنسانويتها. الفرادة قادرة على الاقتحام البليغ بلا وسيط من هنا وهناك، والتعايش بين أوروبا والعرب يجيء من سموّ التآلف بين المسيحيين والمسلمين في لبنان واستطرادًا في دنيا المشرق.ما يعبّر عن تلك الرؤية، خطاب لإمامنا المغيّب وقد كان هدية صديقي الحبيب عماد جوديّة الثمينة لي في صبيحة هذا اليوم أي في ذكرى غيابه، لفظه ببلاغة عصماء في ذكرى الإمام جعفر الصادق في صور، وفيه قال: "وإذا فشلت تجربة التعايش بين المسيحيين والمسلمين فغدًا، ماذا يفعل الأوروبيّ مع العرب، وماذا يفعل الغرب مع الشرق؟ إنّ هذه التجربة الإنسانية أعظم من رجالنا السياسيين الحقيرين، وأكبر بكثير من سياسيينا الأقزام الذين لا يفهمون معنى الوطن، وكأنه شركة تجارية من شركاتهم التي تنبع كلّ يوم فقرًا... وهاجم السياسيين سائلاً:"ماذا تعرفون يا تجار السياسة، أيها المتعطّشون إلى الدماء، يا مصاصي أموال الناس وحرماتهم؟ ماذا تعرفون عن الوطن الإنسان والحضارة والتاريخ..." إلى أن بلغ قائلاً: "...إن لبنان للمسيحيين والمسلمين. وأنتم أيها السياسيون، آفّة لبنان وبلاؤه وانحرافه ومرضه وكلّ مصيبة، إنكم الأزمة. إرحلوا عن لبنان، ليس بين المسلم والمسيحيّ إلاّ التآخي والتكاتف والمساواة حتّى في الحرمان".

هذا اللبنان هو ما نفتقر إليه فيظلّ الأزمة التي نعيش، وهي أزمة تأليف الحكومة. ما يؤلمنا في هذا الزمن المتوحّش، أن من بتعاطى مع أزمة التأليف يتعاطى وكأن لبنان مزرعة أو شركة عقارية أو تجارية يتقاسمها مع أقران له دون مبالاة بأوجاع الناس وتطلعاتهم وفقرهم وهم على أبواب استحقاقات مالية تصيبهم بالبلايا والنوائب أحيانًا كثيرة. "إرحلوا عن لبنان..." إنه الشعار الأمضى في ذكرى غياب إمام لا يوال صوته صارخًا، نسمعه من خلف الضباب وقلب الصحراء الخانقة، نسمعه صداه ما بين الأرض والسماء يعدنا بميلاد لبنان الحقيقة الحقّ والحرية الحقّ، لبنان المجبول بدماء الأحرار الذين آمنوا بأن المحبة تعلو على كل التفاهات وتسمو على الخيانات بل وستنتصر عليها.

مع بدء الحرب اللبنانية، وقد وصفها غسان تويني رحمه الله بأنّها حروب من اجل الآخرين، حمل إمامنا نفسه إلى الكلية العاملية واعتصم في رحابها رفضًا لكل اقتتال مذهبيّ، وقد أدرك بأن الحرب اللبنانية بتعدديّة صفاتها هدفت إلى ضرب عصب الحياة، وضرب فلسطين بقدسها الشريف. لقد ضربت فلسطين في كلّ الساحات وليس فقط في الساحة اللبنانية، والنيل من الساحات منطلق إلى الترميد والتفتيت. كان يقرأ بعمق. إعتصم في الكلية العاملية، أضرب عن الطعام رفضًا للحرب، وكان إلى جانبه المطران جورج خضر غسان تويني حسين الحسيني ميشال إده وآخرون. فكان أمثولة حقيقيّة في المحبة الجامعة والتي تبقى أقوى من الغياب والخطف والموت.

أيها الإمام حين اختطفت كنت صغيرًا، ولكنني واحد من جيلك، وأرجو أن أرتقي مع أقران لي إلى سموّ فكرك، سأحملك في قلبي وعقلي، وأحمل معك مطرانيّ حلب، بولس يازجي ويوحنّا إبراهيم، وعباس بدر الدين، والشيخ محمد يعقوب، ونصرخ معك في هذه البريّة الموحشة، أيها السياسيون إرحلوا عن لبنان، وإليكم نقول عودوا فقد آن وقت العودة ليسمو معكم لبنان والمشرق ويحلو ويعلو ويصير وليد الله الواحد في التاريخ.
 

  • شارك الخبر