hit counter script

مقالات مختارة - ميشال ن. أبو نجم

إيجابية "الإنتداب" الروسي

الإثنين ١٥ آب ٢٠١٨ - 10:47

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لم تَعُد روسيا قوةً خارجية في سوريا فحسب، تمارس دوراً تدخلياً عسكرياً وسياسياً في آن، بل باتت قوةً سورية "داخلية" منذ ترسيخ دور قاعدة "حميميم" السياسي. صحيح أنَّها استخدمت قوتها العسكرية الصلبة لكسرِ شوكة المنظمات الإرهابية، لكن كان ذلك ليجعل تدخلها مشابهاً للولايات المتحدة في عراق ما قبل تحول بيكر – هاميلتون، قوةً غاشمة تخبِطُ خبطَ عشواء من دون أيّ حساسية سياسية أو حتى "انتدابية" بالمعنى الذي مارسته قوى الإنتداب الفرنسي – البريطاني الذي سيطر على مجتمعاتنا وأنشأ دولنا، لكنه وضع ركائزَ مؤسسات الدولة السياسية والإدارية وبالتالي لم يَكن سلبياً في المطلق على ما روتْالسرديات القومجية.

وفضلاً عن حصرِها الدور العسكري في مواجهة القوى المصنفّة إرهابية، فإن "الروسيا" هذه تدير المصالحات في البعد الداخلي، تنشُر شرطتَها العسكرية لا الوحدات المقاتلة في مناطق النزاع، تقدِّم نفسها كقوةٍ ضامنة لجميع الأطراف تحت مظلتها للأمان، ما جعل "حميميم" تتحول من كونها قاعدة للمقاتلات فحسب إلى ملجأ سياسي ذات دورٍ جامع على المستويات السياسيةوالإجتماعية.
وإلى سجلّها "الإستقراري"، أضافتْ موسكو مؤخراً مبادرتها لإعادة النازحين من مناطق النزاع لتسحب من القوى الغربية ورقةًمزعزعة لاستقرار مجتمعات المنطقة وخاصةً في لبنان، على ما أظهره سلوك المنظمات الدولية الهلِعة لدى كل محاولة لبنانيةرسمية للحفاظ على هوية النازح السوري وحقوقه في العودة إلى بلده وعلى مصلحة لبنان في الوقت نفسه. فبات لروسيا علينا، كمجتمعاتٍ مشرقية تَزخرُ بالتعددية، فضلان "إلى يوم القيامة"، الأول دحر الإرهاب التكفيري الذي كاد يهلِكُنا، والثاني إعادة النازحين، وهذا من حسنِ حظنا أن تكون قوتنا "الإنتدابية" الأحدث ذات بعد "استقراري"، بحساسياتِه وقدرتِه على إدارةٍ سليمة للعلاقات بين المكونات.
هذا البعد وهذه القدرة بالذات، ما يجعلان دور موسكو يتمايز ويسبق معظم الأدوار الإقليمية الفاعلة سورياً. فدول الخليج استخدمتْ الأداة المتشددة في ما يتقاطع مع تجربة جهاد أفغانستان وينقل الأفكار المتطرفة إلى الإسلام السوري السمِح تاريخياً، وتركيا عدا تماثِلها مع دول الخليج في هذا الإستخدام ذات بعدٍ استعماريٍ واضح على ما أبرزَه سلوكها في شمال سوريا في التتريك التربوي والإجتماعي، هذا إذا استثنينا نهبَها حلب اقتصادياً وصناعياً. أما إيرانالتي دعمت النظام ومؤسساته، فالبُعد المذهبي والتخوف السوري من تبشيرها "الثوري" يحرِمانها من القدرة على أنْ تكونَ قوةً ضامنة وجامعة، بعيداً من صراعها مع واشنطن والغرب والفرق في الحجم مع القوة الثانية في الإدارة الدولية.
عوامل كثيرة تساعد روسيا على أداء هذا الدور.
في الجيوبوليتيك خرجت روسيا إلى المشرق مراتٍ عدة نحو المياه الدافئة من معبر صراعاتها مع السلطنة العثمانية، وفي التاريخ الحديث قوة مؤثرة في الدول العربية وفي سوريا ترتبط بعلاقة تاريخية مع مؤسسات الدولة وفي طليعتها العسكرية، ما جعلها ذات حساسية في معرفتها بمجتمعات المنطقة، كقوةٍ شرقية وأوراسية أكثر منها غربية وأوروبية. وفي سياستها الخارجية، فإن الأولوية للبراغماتية التي تقوم على تحقيق المنافع الأقصى وقدرتها على التواصل مع أطراف النزاع كافةً وبالدول المؤثرة والفاعلة في الساحة السورية، ما وضع معظم أوراق "لعبة الأمم" السورية في موسكو في اللحظة المناسبة لانكفاء الولايات المتحدة التي كانتْ اعتمدت خياراً لا تدخلياً منذ عهد أوباما.
ترتبط الحساسية الروسية نحو المشرق والسعي لدعم الإستقرار بتكوين المجتمع الروسي نفسه ذات التنوع لا الديني فحسب بل القومي والإثني. وفي عُمق تفكير موسكو الإستراتيجي، أن ضرب التنوع أينما كان في العالم وخاصة في منطقتنا، ما هو إلا شرارة ستحط عاجلاً أم آجلاً في عقر دار روسيا نفسها. من هنا بروز ظاهرتين في الخطاب الإعلامي والسياسي الروسي: الأولى مهاجمة السياسات التدخلية الأميركية وخروجها عن الشرعية الدولية في مغامرات ضرب صربيا وكوسوفو والعراق وغيرها، واعتبار ذلك ركناً أساسياً في تمزيق المجتمعات وتعزيز النزاعات الداخلية على أسس قومية ومذهبية.أما الظاهرة الثانية فهي شن حملة على "الوهابية" كما تسميها وسائل الإعلام الروسي، نظراً لانتشار أفكارها في جمهوريات سوفياتية سابقة وبالتالي بروزها كعنصر تهديد في المجتمعات المجاورة لروسيا وبالتالي لتماسكها.
هذا البعد "الإستقراري" في "الإنتداب" الروسي الحديث، ما يجعله يتحلى بصفة "الإيجابية" تجاه تمزقنا الأزلي و"ويلِنا" بالطابع المصدوم للسؤال التأسيسي لأنطون سعادة، ومن جهةٍ ثانية يجعل مصر طليعة المتقاطعين معه عربياً، ببعدِها كدولةٍ وطنية مركزية لا تحمل إيديولوجيات دينية أو "سياسات هوية" في دورها الخارجي، ولهذا التوجه المصري حديثٌ آخر.

  • شارك الخبر