hit counter script

مقالات مختارة - كرم الحلو - الحياة

في جدل الثنائيات وأسئلتها في فكرنا المعاصر

الأحد ١٥ آب ٢٠١٨ - 07:18

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ما برح جدل الثنائيات سمة أساسية ملازمة لفكرنا العربي المعاصر. ثمة التباس مفهومي لا يزال قائماً، إن في المعنى أو على مستوى الدور والمآل، بين ثنائيات الدولة والأمة، المجتمع والنخبة، الأصالة والحداثة، القومية والقطرية، الوطن والاغتراب، الثورة والفتنة. التباس لا يزال يربك هذا الفكر في تصوراته للواقع والمستقبل العربيين، وقد وضعه دائماً موضع المراجعة والمساءلة، وحال في شكل وفي آخر دون انخراطه في حركة إبداعية تجديدية لرؤاه ومفاهيمه، تدرجه في صميم الفكر الإنساني المعاصر وتمكّنه من المساهمة في صوغ تصورات فكرية خلّاقة للمستقبل الإنساني. فعلى مستوى ثنائية الدولة ودورها، هل هي الدولة التسلطية التي تعيش على الولاءات الجزئية، الطائفية أو القبلية أو الجهوية، الضامنة شبه الوحيدة لعملها كجهاز قهري وسلطة مركزية مفتقدة المشروعية الديموقراطية، أم إنها دولة العقد المدني الحائزة المشروعية الجماهيرية والأخلاقية؟ هل هي قائمة فوق الأمة ونقيضها أم هي منبثقة من الأمة وإرادتها؟ هل هي الجامعة شتات العصبيات وأساس الوحدة المواطنية أم هي ضد الأمة، بتعبير برهان غليون، والمغتصبة إرادتها وحرياتها؟

أما على المستوى الاجتماعي فتشكل العلاقة بين النخبة والمجتمع صورة نموذجية للثنائية الأكثر شيوعاً في تراثنا العربي، ثنائية العامة والخاصة، القادة والجماهير. فالجماهير في هذه الثنائية إما قاصرة تحتاج إلى قيادة تمسك زمامها، أو هي مقموعة لا تستطيع التعبير عن إرادتها، وإما هي غافلة يجب أن تدفع دفعاً نحو المثل العليا للنخب الأيديولوجية. لهذا، طالما نظر إليها كمصدر قلق وريبة لدى السلطة الاستبدادية التي تحيط نفسها بالمخابرات والأجهزة، وتحاول التخلص من كل نقد أو اعتراض، وترى في أي تقدم يحرزه المجتمع المدني تهديداً لجبروتها وسلطانها. في المقابل، تنظر الجماهير إلى النخب بوصفها قدراً مفروضاً تجب إطاحته، والتعامل معه على مضض، حتى أن النخب الحزبية لم تكوّن حالة شعبية، وغالباً ما ظلّت على هامش المجتمع لا تصغي له ولا يصغي لها. وكانت النتيجة أن تحوّلت إلى واعظ أيديولوجي مرفوض تجثم غربة قاتلة بينه وبين الناس، حتى ليمكن القول أن ثمة فصاماً مريباً بين الجماهير والنخب الحزبية.

وتعتبر ثنائية الحداثة والأصالة إحدى أكثر الثنائيات جدلاً في فكرنا المعاصر، إذ طالما رفضت الحداثة باعتبارها شكلاً من أشكال الهيمنة والتسلط والعدوان على قيمنا الدينية والأخلاقية والتراثية برّر عند جلال أمين وسواه استبعاد كل شعارات التنوير كالحرية والمساواة والتسامح والعقلانية بوصفها عولمة مفروضة من حضارة غربية مهيمنة. وفي الوقت ذاته، ذهب الليبرالي العربي إلى أن لا سبيل أمامنا للبقاء داخل عصرنا والتطلع إلى المشاركة في حراكه الحضاري إلا بتمثل قيم الحداثة واستيعاب رؤيتها إلى التاريخ باعتباره تطوراً وتقدماً وإبداعاً، من دون أن يكون ذلك تنكراً لما في تراثنا من وجوه مشرقة ومضيئة.

ولا تقل ثنائية القومية والقطرية إشكالاً وإرباكاً عن سواها من الثنائيات، فالدولة القطرية في رأي خلدون حسن النقيب «مخلوق دخيل ليس له أسس في التراث، وليست له مقومات مادية إثنية أو لغوية أو حضارية، وإنما جاء مرتبطاً بفعل قوى خارجية تمثلت في إدارات الانتداب والقوى الإمبريالية» في حين أن الواقع التاريخي يؤكد أن الدولة القطرية مرحلة متقدمة في تحول العرب من قبائل وعصائب وطوائف إلى نموذج الدولة الوطنية الحديث الذي من دونه لا أمل للعرب في وحدة عربية. فليس من السهولة شطب الدولة القطرية أو الاستهانة بدورها على طريق وحدة عربية لا يمكن أن تقوم إلا على إرادات الدول القطرية واحترام خصوصياتها التاريخية، وما ذم الدولة القطرية في المرحلة الراهنة، سوى مساهمة غير مباشرة في تمزق العرب وتأجيل وحدتهم المنشودة.

ويترجّح فكرنا المعاصر في التعامل مع ثنائية الثورة والفتنة، حيث يختلط المعنى والدور فترتدي الفتنة جلباب الثورة، أو تنحدر الثورة إلى مصاف الفتنة لترجع بالمجتمع إلى عصبوياته ما قبل المدنية عوض أن تؤسس لمجتمع جديد وقيم حديثة هي الهدف المنشود لأي تحول ثوري حقيقي.

أما الثنائية التي اتخذت حيزاً واسعاً في فكرنا، فقد كانت ولا تزال ثنائية الذات والموضوع، فهل الأوضاع الموضوعية المادية والاقتصادية هي وحدها أساس الفكر والسياسة والوحدة القومية العربية كما دأب الشيوعيون وسواهم على الاعتقاد، أم إن العوامل الروحية والثقافية هي العوامل الفاعلة في التاريخ وهي المؤسسة للتقدم السياسي والاقتصادي كما يؤكد «الخطاب الثقافي» منذ الستينات؟

وتبقى الثنائية الأقدم ثنائية الوطن والمهجر، فمنذ القرن التاسع عشر تنازعت هذه الثنائية الفكر العربي، من قول فرنسيس المراش: «إن بلاد الله واسعة فاختر لسكناك المحل السليم»، وقول جبرائيل الدلال: «إن قلبي يهوى الرجوع إلى الوطن وصوابي يقتادني للرحيل»، إلى قول حليم بركات «لا أدري أيهما أشد قسوة الوطن أو المنفى؟». وسيبقى السؤال مطروحاً بل سيزداد مأسوية طالما ظلّ فكرنا العربي يترجح بين ثنائياته عاجزاً عن حسم خياراته ليمضي باتجاه عالم جديد ما برح حتى الآن بعيد المنال.
 

كرم الحلو - الحياة

  • شارك الخبر