hit counter script

باقلامهم - بروفسور نسيم الخوري

الـ"BIG DATA" والأعمدة الخمسة لقيادة العالم

الثلاثاء ١٥ تموز ٢٠١٨ - 06:07

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

عندما كنّا صغاراً كنا نُصلي قضبان الدبق الأخضر في الأشجار وقرب الينابيع لنصطاد العصافير. اليوم صارت الدول والشعوب تَعلَقُ على دبق الخلوي أو المحمول مثل العصافير. كيف؟

ملاحظة: هذا النص موجّه إلى الشعوب العالقة في دبق شبكات التواصل عبر العالم:
لا يتجاوز التراث المكتوب كتلة أو كميّة ، لكلّ ما أنتجه البشر كتابةً وحافظوا عليه قبل صناعة الورق ومعه وحتى نهاية العام 2008، المكتوب والملفوظ والمرسوم المتراكم الآن في العالم في خلال دقيقة واحدة.

يتجاوز هذا الكلام الخيال ويرمينا ونحن في عصر الفضاء وفورة الكتابات الضوئية وفوضاها اليوم في ما يعرف بالـ"بيغ داتا" (Big Data) المستند إلى "الخوارزميات" (Logharithmes) نسبة إلى ما تركه محمد الخوارزمي ( 780م- 849 ) في علم الجبر والحسابات الهندية المصدر وقد برع فيها في عصر المأمون.

وتجذب كبريات الجامعات الشباب اللامع للتخصّص المنتشر في الـ"بيغ داتا" لأنّه حقل جديد يُخرِجُ العقول من علوم العقم النظري والمسائل الرياضيّة الرتيبة إلى هندسة المعلومات والاتّصالات والرياضيّات التطبيقية حتّى القبض على محور الأرض علمياً.

كانت شاشات التلفزة تجذب البشرية وتتوهّم أنها تسبق السياسات وقادة العالم. إنعكست المسائل بعدما تمكّن عقل الرياضيات الحديثة من اصطياد البشر بثقافاتهم ولغاتهم المتنوّعة تباعاً إذ وقعوا كتلاً متلاحقة وبالصف فوق الشبكة العنكبوتيّة الضوئيّة التي قزّمت الشاشات والثقافات المحكومة بالتواصل التقليدي ودفنته ورمت الكتابات في نشر الصور والأخبار والأكاذيب من دون أي اعتبار لمرجع أو لعلم أو لحقيقة. يكفيك الخبرة وتحريك الأصابع لتصبح عالمياً مشهوراً. المهم أنْ تعلم كيف تضيء الطريق لمن يتابعونك. ليس بالضرورة أن تكون متعلماً وفقيهاً وخبيراً.

رفعت العشوائية والمشاعية والصدفة والاستسهال صفات التمرّس بثقافة اللعب أو اللعب بالثقافة أو قتل الوقت بالتسلية والنشر والوحدة. صار البشر أو عادوا إلى آدم الأسطورة المرمي في الحفرة وما من يوقظه.

تسارعت عمليّة النشر وتضخّمت عبر وسائل التواصل الإجتماعي حيث لا حواجز أو رقابة لتصبح المصادر مثل المحيطات الكثيرة الغنيّة بالمعلومات من قبل الجميع وفيها مراكز الأبحاث والجامعات والشركات والدول الكبرى التي يمكنها أنْ تلتقط عبرها روح الشعوب وأمزجتها وميولها وإخضاعها وتثويرها بعدما يتمّ تكرير هذا المكتوب والملفوظ وتنقيته وعصره وتحويله إلى أمر دولي. ويعتقد الناس جميعاً أنّ كلّ ما كتبوه مخبّأ لهم في غيمة (Cloud) لحساباتهم في الفضاء لها مفاتيحها وكلمات سرّها ولا أحد يستعملها. العكس هو الصحيح.هذه المواد هي مثل النفط الخام الذي منه يستخرج البترول لحكم الدول وإخضاعها.

كيف؟

جرّ هذا التدفّق الهائل للمعلومات/النفايات إلى جمعها واعتبارها المواد والبيانات والصور المعاصرة المشابهة لآبار الثقافة المشابهة لآبار النفط الخام. هي المادة المعاصرة الصالحة التي يجب تكريرها وفق تقنيات وبرامج وتطبيقات علمية عالية المستوى لفهمها وإدارتها وتصنيفها وترقيمها وفق الدول، ومن مشتقاتها الكثيرة تتمّ صياغتها في معانٍ وأفكار واستراتيجيات وطاولات مستديرة وعقول رياضية تستخرج وتفكر وتدوّن بقصد قرارات التنمية والتخلف في الوقت نفسه، وبهدف تقرير مستقبل أي كتلة بشرية صغيرة أو كبيرة أو وطن أو مجموعة فوق الأرض.

مثلاً: قد يعادي أحدنا أفراداً أو جماعات أو دولة أميركا بما لا ينتهي من اتصالات وكتابات وتواصل عبر حقول التعبير والتغيير والتهديد على شبكات التواصل الاجتماعي، لكنّ مادة الاتّصال المتجمّعة تصبّ وتتجمّع في غيمة، وتأخذ طريقها إلى التنقية بالإضافة إلى تحديد المواقع والتحرّكات وبطاقات الإئتمان التي ترسم خرائط الأقوال والأفعال وحركة الأموال وأصحابها.
لا يعني محوك المعلومات التي تفرزها بنقرة الحذف (delete) أنّها ذهبت نحو سلال المهملات الإلكترونيّة. لا! قد لا تعني هذه النقرة شيئاً للكثيرين لكنها ذهبت وتجمّعت مادة خام يتمّ استخدامها واستثمارها بضخامتها وغناها بحثاً عن المعاني والقرار. ليست متاحة هذه التقنيات بعد للشعوب الجاهلة المفتونة بالتعبير والتي تشغل مساحات الحرام فيها مصطلح الجسد الذي يحرّم الكتابة في الجنس والسياسة والدين، أو في الصراع في مسائل الحرية والديمقراطية والعدالة وحرية المرأة وغيرها من المصطلحات المضيئة المعاصرة، لكنك تلاحظ تلك العبثية في تدفّق المحرّمات التي تستباح لدرجة سير الغرائز أمام العلم والعقل في الكتل المعلوماتية المتدفّقة من دول الحرمان والتي يسهل ضبطها وتعريتها عبر المكتوب والمقال والمصوّر.

هنا نبت الربيع العربي!

منذ العام 1997 تتحوّل كتابات الدنيا إذاً إلى آلات وآليات وبرامج تسمح بتخزين كميات لا يمكن تقديرها من المعلومات تصب في القواعد الرقمية جاهزة للهندسة الإستثمارية. لا يمكن تشبيه أهميتها بإكتشاف البخار في بدايات القرن الـ19 أو بالثورة الصناعية في آخره أو بالثورة المعلوماتية مع أفول القرن العشرين. بلغت البشرية المرحلة النهائية من الثورة الصناعية الثالثة التي يمكن اختصارها بكونها مصدر استراتيجيات السلطة الفائقة لخلخلة المجتمعات والأوطان من بعيد ومن قلبها وهدم أسسها على أيدي أهلها.

ما هي الـ"بيغ داتا"؟

بصراحة: هي أقوى وأشمل من التعريف و"المفهوم" عاجز عن حصرها.
لا يمكن لأيّ آلة تقليدية إداريّة من استيعابها وتصنيفها وإدارتها لأنّها تتجاوز 3 تريليون أوكتيت تتدفّق كلّ يوم في العالم. كان جمعها واختصارها قبلاً مقتصراً على الرسائل وأحوال الطقس وتحديد الجغرافية وحركة التجارة في الدنيا عبر الـ"ياهو" (yahoo) الضامر ليعطي مكانه للـ"فايسبوك" و"غوغل" اللذين كانا أوّل من أطلقها ثمّ حلّقت مع "تويتر" العصفور الأزرق للتحكم بالأسواق والاقتصاد العالمي ورسم السياسات والقرارات واختصار وجهة الأوطان بكلمات محدودة مختصرة واضحة تدير المخاطر والحروب والأزمات وتوجّهها، مستخرجة من المواد الخام التي يهطلها المواطنون فوق شاشاتهم رأياً عاماً وقرارات هندسيّة مغرية وصائبة في التحكّم.
كانت المعلومات تعني الكثير لمؤسسة ما ولا تعني شيئاً لأخرى وهذا ما أفضى إلى الأعمدة أو الأبعاد الخمسة للمعلومات الضخمة المهمّة:
أوّلاً: لا يفترض السؤال عن أهميتها وفائدتها ومعالجتها قبل السؤال عن حجمها volume وإمكانية جمعها وتخزينها لأن ما يكرّر من معلومات البشرية لا يتجاوز الـ20 % من المحادثات والرسائل التي تجذب شهيّات الدول بينما يهمل الـ80% المتبقيّة.
ثانياً: يفترض الاهتمام بتنوعها variété لما تحمله من معلومات تختلف باختلاف أنماطها ومصادرها.
ثالثاً: يفترض تقدير مستوى السرعة vélocité والنشاط في معالجتها ومشاطرة أصحاب القرار بها.
رابعاً: لأنّها معلومات تكون ربّما حافلة بالكثير من المخاطر والسلبيات والأكاذيب التضليلية التي تفقدها القيم valeurs.
خامساً: لأنّ الكثير من المعلومات تقتل المعلومات وتصبح أحجامها أحياناً حواجز أولى تولّد حواجز أخرى لها علاقة بمستوى الثقة بهذه المعطيات كما تفقدها صدقيتها véracité.
هل تسقط التقارير والدراسات والمعلومات والمقابلات السريّة والأخبار التي يزوّد بها السفراء والقناصل والخبراء ورجال المخابرات القادة تسهيلاً لرسم السياسات والاستراتيجيات وتمريرها على جرعات وتصويبها وقياس مدى نجاحها وإخفاقها عند التطبيق؟ هل أجازف إنْ كتبت أنّ وزارات الخارجية والحكومات ستتحوّل إلى هياكل إدارية شكلية لا علاقة كبرى لها بمستقبل شعوبها وأوطانها عند رسم السياسات؟
نتابع وننتظر ونكتب!
 

  • شارك الخبر