hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

إلى ملاك جبل لبنان الجديد سلوان

الأربعاء ١٥ تموز ٢٠١٨ - 17:45

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

انتدبك المجمع الأنطاكيّ المقدّس لترعى الشعب المؤمن في أبرشية جبل لبنان أو أبرشية جبيل والبترون وهذا هو اسمها الحقيقيّ، بعدما كنت راعيًا لأحبتنا المنتشرين في الأرجنتين. لقد تمرّست على الرعاية منذ أن نذرت نفسك للسيد المبارك، وكرّست نفسك لتعلو إلى وجهه القدوس، وتعلّي معك أحبته المنتشرين في المدى الأنطاكيّ منذ الابتداء، أي منذ كنت شمّاسًا إلى حين أمسيت كاهناًا وارشمندريتًا ومن ثمّ أسقفًا. سأنسى قليلاً من أنت وابن من أنت في اللحم والدم، ومن أنا وابن من أنا قد جمعت عائلتي وعائلتك وشائج صداقة عميقة متيامنة ما بين عكار ووادي النصارى وطرابلس، والسيد البطريرك يوحنّا العاشر الحبيب، اختلج الفؤاد منذ أكثر خمس وعشرين سنة فيما العائلتان اجتمعتا على النسابة والمصاهرة ورفقة درب وتاريخ. سأغوص بما أنت عليه الآن، لأنّ ما أنت عليه سيحدّد مسار رعايتك في أبرشيّة انتدبت عليها، فيها الجبل يلامس الشاطئ، والصخور تداعب السهول، والجنائن تختلج النفوس والقلوب، ويؤكّد عندئذ من أنت أسقفًا وراعيًا وأبًا حبيبًا للجميع.
أنت يا سلوان حبيب الله. هكذا يدلّ عليك من كثيرين. لم يعلن لك هذا لا لحم ولا دم، بل الروح الإلهيّ الذي نزل عليك منذ أن دعاك ربك إلى خدمته قد سمّاك حبيبًا. أنت ابنه وقد ولدك مباشرة من إنجيله الكريم، أي أنت مولود الكلمة وسواه لا تعرف في الدنيا لأنه يرشدك إلى الحقّ فيها والتاريخ، ويقيمك في الرعاية أميرًا-خادمًا. سيطوف ويحوم حولك كثيرون، ويحاولون تبرير ما هم عليه، أو ما كانوا عليه. بعضهم سيحاول التقرّب منك ويمسح أمامك دموع الزيف ويظهر كالنعجة فيما كان ذئبًا بثوب حمل يضرب رعية المسيح بفظاظة ويمتص ما لها وما إليها والناس في ذهول. على الطريقة اللبنانية سيتزلّفون (نحنا حدّك ورجالك يا سيدنا)، فلا تستمع إليهم ولا تسمح لهم بالعبور عتبة بابك، لأنهم كاذبون. سياتي بعضهم الآخر ويمثل لديك بتنظير لاهوتي مغلّف بعبارات منمقة وجميلة، فلا تصدقهم لأنهم مقلدون كذبة، لقد فرضوا على البسطاء من شباب وصبايا هذه الأبرشية الطاعة العمياء ومنعوا المساءلة والنقاش، وضربوا بعرض الحائط مسالك الإبداع، وسطوا بنعومة على كلّ شيء وحجّموا النهضة بأطر شخصانية مقيتة يرفضها العقل الراني والرائي في آن، وحاربوا كلّ من ليس منهم فاعتبروه عدوًّا لهم. هؤلاء، سيدي، احذر منهم وقف لهم بالمرصاد، أذب معاثرهم بوداعة الإيمان وأدّبهم بقوّة الحقّ واجرح سطوتهم بسيادة الإنجيل، وأنا أعرف من أصدقاء أحباء مشتركين أنك صارم، وستكون صارمًا بالعدل وحازمًا بالمحبة وقانونيًّا باستعادة ما سلب بالحقّ وراعيًا بالكلمة الطيبة. وفي كلّ ذلك سترسم خريطة طريق لأبرشية رعاها ملاك عظيم الشأن، كبير في الفكر، ورائع في المحبّة، وهو سلفك جورج خضر أطال الله بعمره. إنّه يا سيدي من ولدني في المسيح يسوع عن طريق المعرفة الفكريّة والتاريخيّة والثقافية وقرّبني من هويتي الروحيّة والوطنيّة والقوميّة وجعلني أفهم من أنا، لقد كنت ربيبه في الفكر وحلاوة المعشر ونقاوة الإيمان وبنوّة كاملة. ولكنّها أبرشيّة تعثّرت وتبعثرت غير مرّة، بسبب السلوكيات النافرة من هؤلاء، فأصيبت بالندوب والعطب، فقد استغلّوا محبة هذا الجليل الكبير، وأدخل بعضهم الأبرشيّة في مديونيّة هائلة عبر مشاريع متسرّعة وغير مدروسة. لقد وثق المطران الحبيب جورج بمن هم غير جديرين بالثقة وسادت الأبرشية فوضى خلاّقة وانشقاقات عموديّة بين كهنتها وناسها، ونسي أو تناشى كثيرون أنهم للرب يسوع المسيح وليسوا على الإطلاق للحم ودم، أو لبولس أو أبولس.
أنا ربيت في الأبرشية منذ الطفولة، ومع شلّة من رفاقي، أسست في كنيسة القديسين بطرس وبولس في الحازمية فرعًا لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ما بين سنتيّ 1986-1987، وكنت أعرف أنك ربيت بدورك في بلدة المنصوريّة في هذه الأبرشية وكنت بدورك تساهم في العمل البشاريّ-الحركيّ، قبل ارتقائك إلى الخدمة الكهنوتيّة. ربيت في أبرشية ربطت بين والدي وراعيها صداقة عمر منذ أيام طرابلس وقد كان مدنيًّا محاميًا، وورثتها بحب وشغف، وأشكر الله على أنني عشت في زمنه وزمن كبار يشبهونه في الإبداع والرؤى والمحبة. هذه الأبرشيّة سيدي تمتدّ لثلاثة أرباع لبنان. أي أنك ستكون راعيًا لمساحة كبرى من لبنان. لن يكون بمقدورك أن تتفاعل في أعمال رعاياها وهي تربو على المئة رعيّة، وتراقب المشاريع فيها، قبل أن تشرّع الطريق إلى شراكة فعلية وموضوعيّة مع المؤمنين وقد أسماهم سلفك بالعوام، وهي كلمة لا أهواها كثيرًا. المؤمنون سيدي هم المدى، وأرى ببساطة المؤمن، أن تبادر إلى التفاعل مع النخب من فكريّة وحرفيّة وطبيّة وحقوقيّة وإداريّة، وتقربها إلى ملء قامة المسيح من منطلق دعوتك لها للمشاركة في العمل على إنماء الأبرشية وإنماء رعاياها، بمجلس مليّ أو استشاري عام ومجالس رعايا متفاعلة بعزم ونشاط مع راعي الأبرشية.
يقتضي هذا أوّلاً، أن تدعو عددًا من الشخصيات المختصّة إلى لجنة واحدة وتكلفها السعي ماليًّا وإداريًّا لتشييد مبنى مطرانية جبل لبنان، فيكون صرحًا أرثوذكسيًّا كبيرًا في هذا المدى، إذ لا يسوغ أن تبقى الأبرشية بلا مطرانية فعلية، لها جهازها الإداريّ المخلص لعمله، الوفيّ لإيمانه، والنزيه في حساباته، والراقي في علاقاته، والكفوء في طبيعة اختصاصه والمطيع لمطرانه والموجّه له في آن. إتني يا سيد بمن هو الأشرف والأعلم والأكفأ، وخذ إدارة ناجحة ولامعة، لا استغلال فيها ولا غشّ ولا طمع ولا روائح نتنة فائحة. إستخرجها من العدم وحدّد لها المهام والصلاحيات ودعها تعمل بإدارتك ورقابتك ورعايتك المباشرة، ومن ثم كلفها مع فريق عمل بإحصاء المؤسسات القائمة في مساحتها والتدقيق بإنتاج بعضها وأسباب إغلاق بعضها الآخر. وانطلق معها بحزم جازم وعزم حازم، لمعرفة وضعية ملايين من الأمتار من الأراضي وهي ملك الأبرشيّة، ودقّق بعقود الاستثمارات فيها، ومن ثم احزم أمرك واضرب بعصاك حيث يجب ليستقيم الإعوجاج ويبطل سلوكه، فمن كان مارقًا اطرده ومن كان سارقًا قده إلى المحاكمة واسترجع منه ما سرق. هذه أبرشية تحوي أديارًا كثيرة، وهي محجة للمؤمنين، والأديار بحمد الله ناشطة وتعمل وتضيء على المدى الأنطاكيّ كلّه. وبدورنا نعتبرها منارات لنا جميعًا نستنير من قداستها. غير أن بعض الأدبيات والسلوكيات تحتاج إلى المزيد من التأمل والقراءات وبعضها الآخر يحتاج لإعادة نظر وتقوييم وتقويم وإلى تصحيح إذا وجب ذلك، وإحقاق الحق حيث يجب وإبطال النكد، والدعوة أن يبتعد الأدب الرهبانيّ عن الكلاسيكيّة في التحليل والتأمل ويلامس بعض الشيء الحداثة. الكنيسة تحتاج يا سيدي إلى رهبان يصلون من أجل خلاص العالم وفي الوقت نفسه يفهمون قضايا العالم بلا تورّط أو توغّل في وحوله. كما أنّ بعض الأديرة أصبحت بمثابة جزر تدار من دون العودة إلى الأسقف، كما تحتاج الأبرشية إلى كهنة ورعين فهيمين مؤمنين ومحبين، وبعضهم قائم وموجود، ومنهم من اضطهد بسبب نشاطه الميمون، ومنهم من لا يزال يعيش حالة فقر ماديّ بسبب قلّة الموارد. لا يجوز أن يكون راتب كاهن في رعية منتجة بحدود 2000 دولار أميركيّ وآخر في رعية فقيرة لم يبلغ بعد المليون ليرة وينتظر الخدم الخاصّة كالدفن والإكليل والمعموديّة، ليتنفّس الصعداء بعض الشيء من خلالها. الكاهن ليس متسوّلاً بل يحمل كلمة الله ويعطيها مأكلاً للمؤمنين.
سيّدي، الأسبوع المقبل، سيسلمك بطريركنا الحبيب يوحنّا العاشر عصا الرعاية، خذ هذه العصا وقد الشعب المؤمن كموسى إلى أرض الإيمان الصحيح، وحِّده بالمحبة، أنقذه من العصبيات النامية والقاتلة، قوِّهِ بروح الإنجيل واجعل يسوع حياته. هذه أبرشية عاشت الظلم الرهيب يوم تهجر أهلها ونزفت الدماء في قسم منها كبحمدون وبشامون وعاليه وكفرمتى وعبيه ومنصورية بحمدون وبطلون ورأس المتن... خرجوا مهانين بعدما كانوا كرامًا في بيوتهم، وبعد الحرب عاد من عاد، وقد افترسته الفاقة والعوز، بعض من القوم باع رزقه وهجر أو هاجر، وبعضهم بقي، ومن بقي منهم عملوا قدر المستطاع على بثّ النهضة المسيحيّة، والتواصل باحترام وإباء مع كلّ آخر. شيّدوا الكنائس والقاعات، فكان التشييد شهادة قيامية تضجّ بالحياة من بعدما سفك دم يسوع بدماء قومه، كما حصل في مدينة الشويفات، وهي المدينة الفريدة المحافظة على نمط راق من العيش والتواصل، وهي تحوي عددًا كبيرًا من المتعلّمين والمثقّفين، وبناءً على ذلك، تمّ توسيع كنيسة ما ميخائيل في تلّة المدبّر فحولها كاهن الرعيّة الأب الياس كرم رفيق دربي وطفولتي إلى صرح تجتمع في رحابه مجموعة قاعات وأبنية منها مبنى متري جرجي المرّ الذي تبرّع ببنائه نجله الصديق الحبيب الدكتور جورج متري المرّ فأمست مكانًا للقاء المسيحيّ-الدرزيّ في الشويفات والجبل بصورة عامّة، لقد كان الأرثوذكس في الجبل بإمامة المطران جورج الحبيب المبادرين الأوَل في افتتاح عملية العودة والمصالحة مع الإخوة الدروز، وترسخت القواعد المشتركة لقيم لم تكن مجرّد قوالب تنظيريّه بل تجسيديّة، فعمل الكلّ بوداد على حفظها وتبنّيها وتبيانها قدر المستطاع.
سيّدي، هذا جبل تحيا فيه مذاهب كثيرة وتتفرّع في صخوره ووديانه عقائد عديدة وقوميات بعضها متلاق وبعضها متنافر، والأرثوذكس أبناؤك يعيشون تلك الرؤى وبعضهم الكثير يملك طاقات خلاّقة وممتعة. ستتسلّم ابرشية متنوعة في مواهبها وستتعرف على شعبها وهو طيب وراق ويحتاج لعناية وحبّ. ستتسلّم أبرشية فيها الكثير من النفحات الروحية مع بطاركة ومطارنة شعوا منها بدءًا من البطريرك غريغوريوس الرابع حداد من بلدة عبيه إلى البطريرك الياس الرابع من بلدة أرصون، مرورًا بالبطريرك ثيودوسيوس أبو رجيلي ابن بلدة بحمدون، وشعّ من رحابها مفكرون ومؤرخون وأدباء وشعراء وموسيقيون ومسرحيون كبار اغتنى العالم من روائعهم، كمثل الزعيم أنطون سعادة وميخائيل نعيمة وخليل حاوي ونعمة يافث وأسد رستم والأخوين عاصي ومنصور رحباني وإيليا ابو ماضي وجورج شحادة... هذه أبرشية ملؤها الغنى الفكريّ والثقافيّ والروحيّ، إنها مدى لك، خدها وقدها ولا تتوان عن تقويم كل اعوجاج ومواجهة كل ارتجاج والتحفيز لكلّ انبلاج. الفجر أمامك اذهب إليه حاملا إنجيل الحياة وقد جبيل والبترون وجبل لبنان إليه ليمجّد الناس أبانا الذي في السماوت، ويقولوا هذا سيدنا سلوان، لقد رأينا فيه مجد الرب.

جورج عبيد 

  • شارك الخبر