hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

جامعة القديس جاورجيوس في بيروت

الجمعة ١٥ أيار ٢٠١٨ - 13:46

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

عكف الأرثوذكس في تاريخهم على بناء صروح علمية راقية منسجمين بمناخ الحريّة السائد في بيئتهم. لقد قال بطريركهم الراحل إغناطيوس الرابع، الجامعة تحتاج لأمرين، لجذور ناطقة وحرية مسؤولة. الحجر عندهم ليس أثرًا إنهم الكلام الباقي من الأجداد، ينطقه تاريخ صنع بعرق ودماء، فاثروا العالم وأضاءوا في سماء المشرق كنجوم ساطعة تحمل بشرى المعرفة.

يجيء الأرثوذكس في بشرتهم من مسلّمات ثلاث:
-من إيمان انسكب عليهم من كتابهم العزيز وعقيدة لا يزالون راسخين بها ثابتين عليها مؤتمنين على انبثاثها بقوالب مختلفة وعديدة.
-من نضال أثبتوا فيه أنهم اهل للوجود، فاستثمروا المعرفة في نضالهم هنا وثمّة، وأكدوا أن جذورهم المشرقية ليست سليبة بل هي الأصل، فلا علم من دونها ولا سياسة أو اقتصاد بغير وجهها.
-من حريّة يعرفون انهم من دونها لا يملكون القدرة على التوثّب. بها قاوموا وأوجدوا وانوجدوا، أبدعوا وأنتجوا وحفروا في بلاد الانتشار بدءًا من المدى الأنطاكي كلّه، همّهم أن تبقى الكلمة بدءًا وفي البدء، وتظلّ نابضة بكل ما للكلمة من معنى.
ليس من فصل بين تلك المسلّمات، لقد تأسسوا عليها وأسسوا لها في تنوعهم بلا آحاديات نافرة. فالتنوّع أعطاهم أن يطلوا من الشرق إلى الغرب وأن يجيئوا حاملين معهم استشراقًا مكّن مؤسساتهم من ان تثبت دورها الكبير بدءًا من جامعة عريقة زرعها بطريرك أنطاكية الراحل الكبير إغناطيوس الرابع الذي راح يفتش عن المعرفة بالعلم والثقافة والحريّة ويدمج كلّ هذا بالهوية، وقد أوصى بأن نبقى امناء عليها. أقام للأرثوذكس صرحًا علميًّا فوق هضاب الكورة الخضراء منطلقًا من دير عريق، قال لجامعة البلمند كوني فكانت، ولمّا شاء لها ان تتفرّع تفرعت فأطلت نحو جبل لبنان في سوق الغرب وبيروت ودبي، ومع البطريرك يوحنا العاشر أطال الله بعمره، صار لها موقع في عكار وبالتحديد في بينو، وغبطته يكمل مسيرة السلف بإنشاء جامعة المشرق في قرية المشتاية قرب دير القديس جاورجيوس الحميراء لتكون مدى لهذه الوثبات العلمية الساطعة المضيئة وتبدو خاصيّة أرثوذكسية ناضجة وناصعة تزرع في إنطاكية الإبداع ليكون بحد ذاته صلاتنا إلى الله وإلى العالم.
أيقونة جديدة للقديس جاورجيوس اللابس الظفر، تمثّلت بجامعة ناضل متروبوليت بيروت المطران الياس عودة لتكون صلاة جديدة تتلوها الأبرشية لشعب بيروت وفي بيروت. لن تكون هذه الجامعة في تراثها الحقيقي وينابيعها مختلفة عن السياق المشرقيّ الأرثوذكسيّ المتّبع، وهذا أكّده المطران الياس غير مرّة في سياق النقاش حول الأهداف والأسباب الموجبة، وقد طال كثيرًا، وساده الكثير من الشكوك والشكوك المضادّة، وتعثرنا جميعنا ودخلت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية في حقبة خلافية كان لا بدّ من توضيح البنود المرتبطة بها.
لقد ظنّ كثيرون بأن تمسك المطران الحبيب الياس بتلك الجامعة مسلوب إلى واقع سياسيّ متماه مع حقبة تؤسس للبنان وسوريا والمشرق برمته، وتفرض نظامًا شديد الاضطراب، ونما هاجس هيمن علينا جميعًا من أن تبدو الجامعة منطلقًا لانفصال كبير يؤسَّس له في الكرسي الأنطاكيّ المقدّس، فينقسم لبنان عن سوريا، والخشية تعود لأسباب سياسيّة حاولت أن تنساب بخبث داخل الكنيسة وتقودها إلى التبعثر في اللحظات القصوى والحرجة، ومع استهداف سوريا والمشرق برمته. ومن نوافل الأمور أن يعتبر المرء، بانّ البطريرك الحبيب يوحنّا العاشر، لم يشأ على الإطلاق الكنيسة والأرثوذكس في جدل كهذا، والمطران الياس بدوره مدرك للواقع بسبب كبر نفسه وهو لم يهمل خضوعه للنظام الأسقفيّ المعبّر عنه بالوحدة المجمعية التي يرأسها السيد البطريرك. بل على العكس تمامًا أكّد المطران الياس تمسكه بالخضوع حتى آخر لحظة، وأبرشية بيروت غير منفصلة عن الوحدة المجمعية الأنطاكيّة.
وبعد مشاورات مكثفة، قرّر فخامة الرئيس العماد ميشال عون وبالتشاور مع السيد البطريرك أن تعطى الرخصة لإنشاء جامعة باسم القديس جاورجيوس في بيروت. في المعنى الأكاديميّ، ليس من ضير من نشوء جامعة أو أكثر في هذه الأبرشية أو تلك، وفي مقارنة بسيطة بين الكنيستين الأرثوذكسيّة والمارونيّة، ففي الكنيسة المارونية انشأت رهبانياتها جامعات ولم تفكّر رهبانية واحدة بان الجامعة الناشئة في كنف رهبانية أخرى ستسلب من جامعتها حضورها وبريقها واقتصادها وريعها أو عملها، كما هو الحال بين جامعتي سيدة اللويزة والروح القدس في الكسليك، او الجامعة الأنطونية وجامعة الحكمة. وفي كلّ جامعة اختصاصات قد لا تتوفر في جامعات اخرى. ولا يختلف النظام الرهباني في استقلاليته عن النظام البطريركيّ في الكنيسة الأرثوذكسيّة، لأنّ كل رهبانية مستقلة عن الأخرى، مؤسساتيًّا وماليًّا وإداريًّا لكنّ الجميع يحيون في إيمان واحد.
الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية بدورها ليست كنيسة بابويّة بمعنى، أنّ لكل أسقف الحقّ في أن يؤسس لجامعة أو يرمم ديرًا أو كنيسة من دون مداخلة من البطريرك. هذا واقع النظام في الكنيسة، ولا يتكيّف وفقًا لحالات خاصة. لكن من باب اللياقة بإمكان أسقف الأبرشيّة أن يطلع إخوته المطارنة والبطريرك بما هو مزمع أن يقوم به، شريطة أن لا يقوم بالبيع، لكون البيع يفترض موافقة البطريرك. شاء ملاك بيروت الحبيب أن ينشئ جامعة تعنى بالتعليم، ولعلّها ستنطلق من كلية طب ترتبط مباشرة بمستشفى القديس جاورجيوس الجامعي في بيروت فما هي الخطيئة العظمى؟ ويحق لمطارنة عكار وجبل لبنان وزحلة وحمص وحماه أن يحذوا حذوه، فما الذي يمنع أن تقوم كل أبرشية وفقًا لحاجاتها وإمكانياتها بإنشاء المدارس والجامعات؟ جمال الكنيسة انها تحمل العلم والمعرفة للأجيال وهذا واجب ضروريّ. وفي المعطيات بأن السيد البطريرك منفتح على كلّ تلك التطلعات وعلى عكس ما يظنه بعضهم فهو يعمل على تنميتها وتثميرها وتنقيتها من الشوائب حيث يجب.
من هنا لا يظنّن امرؤ بأنّ البطريرك الحبيب يوحنا العاشر معارض لهذه الجامعة بل على العكس فهو مغتبط من بعد زوال سوء الفهم الكبير، والعلاقة بينه وبين المطران الحبيب الياس متينة، وهو القائل لمن سأله عن طبيعتها، المطران الياس أخ جبيب لي وعلى المستوى الشخصيّ الله يعرف عمق الصداقة والأخوّة. والمطران الياس غير بعيد عن جوهر تلك المحبة، ونتطلّع إلى احتفال في بيروت يطلّ منه صاحب الغبطة وإلى جانبه المطران الياس لوضع حجر الأساس لتلك الجامعة برعاية فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ونتطلع مع قدوم الصيف إلى الاحتفال بقداس إلهيّ كبير يرأسه صاحب الغبطة في كنيسة دير القديس جاورجيوس في سوق الغرب وإلى جانبه المطران الحبيب الياس فيقوم غبطته بتكريس جامعة البلمند في البلدة وإلى جانبه المطران الياس ومطارنة الكرسيّ الأنطاكيّ المقدّس، وهذا مسعى قاده النائب الجديد والنسيب الحبيب انيس نصّار منذ سنوات وله الفضل الكبير في نشوء الجامعة في القرية، وننتظر ان يتجسد هذا الأمر بفرح كبير في أبرشية بيروت وبطريركية أنطاكية وسائر المشرق.
مبروك لأبرشية بيروت الحبيبة ولمطرانها الكبير الياس هذه الجامعة بل الأيقونة الجاورجيوسية. لقد خلت السماء من الغيوم وباتت كلية الصفاء تشدّنا إلى البهاء. ستنضح الجامعة بالمحبة والنور، وستكون وجهًا شاهدًا لأرثوذكسيتنا في بيروت ولبنان والمشرق والمنفتحة بحب كبير على الأخ الآخر، والأخ الآخر هو وجهنا ووجه الله في الوجود.
 جورج عبيد

  • شارك الخبر