hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - جورج عبيد

تستحق أبرشية جبل لبنان أسقفا يرفعها إلى وجه المسيح ويبطل نظام الفوضى الخلاقة فيها

الثلاثاء ١٥ نيسان ٢٠١٨ - 11:47

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

يومان يفصلاننا عن انتخاب متروبوليت جديد لأبرشية جبيل والبترون وتوابعهما (جبل لبنان) من قبل المجمع الأنطاكيّ المقدّس برئاسة السيد البطريرك يوحنّا العاشر، خلفًا للمطران الحبيب العلاّمة والمفكّر الراقي جورج خضر الذي استعفى من مهمته بسبب تقدّمه في السنّ. 

وقبل الغوص في المعايير المنتظرة والرؤى المكنونة في جوهر الانتخاب المجمعيّ لا بدّ من التأكيد على أنّ المطران جورج خضر كان ولا يزال الملهم الكبير والمفكرّ النهضويّ في كنيسة تعيش ضمن أزمنة متحوّلة ومتقلّبة، وشاهدة لأحداث طاغية ومواجهة لأفكار إلغائية. وكان مطران الجبل ينتصب مرفوع الهامة بفكره المستنير مواجهًا لها ومحلّلاً لأبعادها، ومؤكّدًا في أدبياته على أنّ النهضة التي بثّها من شأنها أن تحافظ على نوعية الحضور والشهادة وتغرسها في أرض ظامئة إلى الحياة في لحظات اشتداد العواصف في مشرق متألّم من الحروب وراج للسلام.
أبرشيّة جبيل والبترون (جبل لبنان) ليست أبرشيّة اعتياديّة، ولا يمكن مقاربتها بخفّة وتسطيح، وقراءتها على أنّها غير مؤثّرة على وقائع وأحداث كثيرة. هذه أبرشية تحوي ثلاثة أرباع مساحة لبنان، وهي تضمّ ما سمي تاريخيًّا لبنان الصغير، وقد كان النواة لانبلاج لبنان الكبير من الفرنسيين. وهي في الوقت عينه جزء أساسيّ من مشرق تعصف فيه بين الفينة والأخرى عواصف تكوينية ووجوديّة لم يكن لبنان بالمعاتي التاريخيّة والسياسيّة والاجتماعيّة بمنأى عنها وأبرشية جبيل والبترون (جبل لبنان) لم تكن بدورها بمنأى عن تداعيانها وتأثيراتها وإرهاصاتها لا سيّما في حرب الجبل الأخيرة سنة 1983، وقد وصّفها المطران جورج توصيفًا بليغًا في مقالاته بألم شديد، وأيضًا بعد تطبيق اتفاق الطائف وقد كان المطران جورج المبادر الأوّل في إعمار الكنائس وإرساء المصالحة مع الإخوة الموحّدين الدروز، وكاتب هذا المقال أحد الشهود على ذلك. بداءة الأبرشية جغرافيًّا من الشوف ونهايتها عند كتف وادي قاديشا وهي المدخل الطبيعيّ للعاصمة بيروت، وقد كانت قديمًا تضمّ بيروت بحيث سميت أبرشية بيروت ولبنان، ولم تفصل بيروت عن الجبل إلاّ مع انتخاب جراسيموس مسرّة مطرانًا على بيروت سنة 1902. وهي طريق بيروت إلى البقاع واستطرادًا إلى سوريا. الإشارة إلى موقعها الجغرافيّ متماه حتمًا مع موقعها الروحيّ وتأثيرها الفكريّ وحتى السياسيّ والتنمويّ. فالمقاربة بهذا المعنى لا تسوغ أن تتوقّف عند حدود ما هو روحي بحت، بل أن تتأثّر بالمعطيات الاجتماعية والسياسيّة وما إلى ذلك. ولعلّه بات معروفًا بأن انتخاب البطريرك لكنيسة الروم الأرثوذكس الأنطاكية في دمشق وانتخاب مطارنة اللاذقيّة وحمص وبيروت وجبل لبنان من شأنه أن يتأثّر أحيانًا كثيرة بالضغوطات السياسيّة الداحليّة منها والخارجيّة نظرًا للموقع الجغرافيّ الذي تحتلّه الأبرشيّة ونظرًا للتأثير على مسار الأمور في هذه المواقع من خلال دور المتروبوليت وأفكاره وآرائه وشخصيّته وممارساته.
كثيرون ممن تأثروا بأفكار المطران جورج خضر يخشون من الفارق بينه وبين الآتي من بعده. هذا شعور طبيعيّ أن ينمو بإحساس مرهف وصادق عند من رأوه أبًا طيبًا وحبيبًا وتأثروا به حتى الثمالة. ما يفترض على هذا المستوى، أن لا يحدث الخلف فجوة فكريّة ولاهوتيّة بينه وبين المطران جورج، وليس المطلوب أن يكون صورة طبق الأصل عنه في النظيم الإداريّ على وجه التحديد. فالناس في واقع الأمور تأثروا بالقالب الفكريّ الذي نحته وقدّمه كينبوع ماء الحياة لأجيال وأجيال يرون به وجه يسوع الناصريّ المصلوب والقائم من بين الأموات. بمعنى أنّ جورج خضر ترك نفسه بمسيحه وليس بشخصه، وترك نفسه أيضًا بالكلمات المولودة من رحم الكلمة، وجعل من نفسه وفكره جسر عبور إلى المخلّص الأكرم.
وبعد، تنذر الوقائع المتراكمة في أبرشية جبل لبنان، بضرورة أن يكون المطران المنتخب على قدر كبير من المسؤولية والفهم والإدراك لهذا التدحرج البنيويّ الذي عانت منه الأبرشيّة لاسيّما في المراحل الأخيرة. وبرأي فاعلين في هذه الأبرشيّة، إنّ المجمع الأنطاكيّ المقدّس برئاسة السيد البطريرك يوحنّا العاشر، أمام مسؤولية خطيرة في عملية الانتخاب. فقبل الانتخاب ثمّة تقييم علميّ ودقيق يفترض أن يجريه آباء المجمع بتجرّد وموضوعيّة بعيدًا عن الميول العاطفية والتحزّبات الضيقة والمصالح العفنة، لواقع الأبرشيّة لموجوديتها ومحتوباتها للعلاقة بين كهنتها وبين الكهنة والناس، للنظام الليتورجيّ فيها وقد شابته بعض الفوضى النرجسيّة عند بعض الكهنة. تلك أبرشيّة تختلط فيها النوازع والمصالح، ويتورّم فيها الحديث عن الأجباب العائليّة لا سيّما في بعض القرى، وتبرز في الكثير من المناطق الواقعة ضمن نطاقها تيارات عقيديّة وسياسيّة بعضها يتلاقى وبعضها الآخر يتنافر، وفي جزء كبير منها ثمّة تنوّع مسيحيّ-درزيّ وإسلاميّ يفترض أن يتمّ لحظه وفحصه بعمق كبير بحيث أن الأسقف المتوقّع انتخابه يفترض أن يكون ملمًّا وعارفًا بالواقع المتكوّن من مجموعة وقائع، ومتعايشًا معه وفقًا لمعايير كيانية يستلهمها ويستنبطها من دوره كمطران راع منطلق من عمق اللاهوت إلى مساحة الفضاء المشترك مع الآخرين كلّ الآخرين ويصحّح ويصوّب بعضها من أجل المسيح المكنون في كلّ رعية من رعايا تلك الأبرشيّة والراقد وكما قال المطران الحبيب جورج خضر في ليل الثقافات والأديان. موقع الأبرشيّة وإن كان حاضنًا للأرثوذكس إلاّ أنه معنيّ بالآخرين بقيمهم وأفكارهم وتراثاتهم في قرى وبلدات ومدن يكثر فيها وجود الآخرين ويتكثّف فيها الحضور بتجلياته الفكريّة والفقهيّة والعقيديّة.
تحتاج أبرشية الجبل بل تستحقّ أن يكون راعيها خير خلف لخير سلف، وتستحقّ أن يكون طالعًا من الإنجيل إلى العالم، وأن يكون فتيًّا محبًّا وعابدًا لله، وحاضنًا للناس، يتكلّم معهم بلغتهم ويحبّهم من كل قلبه وعقله، ويرفعهم بواسطة الكلمة إلى حضن الآب، تستحقّ تلك الأبرشيّة أن يكون أسقفها نظاميًّا وتنظيميًّا، عاملاً وبقوّة على حلّ القضايا العالقة فيها، واقتلاع نظام الفوضى الخلاّقة من رحابها وشروشها وتنقيته من شرايينها وأستئصاله من هيكلها بحسم وحزم وبمبضع المحبّة ليسوع المسيح ورسالته في الوجود. تستحقّ أبرشيّة جبل لبنان، أن يكون أسقفها الجديد، ممسكًا بصولجان الحقّ بيد وبيد أخرى يمسك غربالاً ينقّي فيها البيدر، فيفصل بين القمح والزؤان ويميّز كسيده الجداء عن الخراف. تستحقّ أبرشيّة جبل لبنان أسقفًا جامعًا للكلمة ما بين الإكليروس فيها وما بين الإكليروس والناس، يمنع الانقسامات ويوحّد الجسد، تستحقّ أبرشيّة جبل لبنان أن ينتخب عليها أسقف يوحد بنية الكنيسة من مضمار احترام التنوّع بين الأرثوذكس، فلا يسمح لأيّ جسم بأن ينفصل عن الكنيسة ضمن مفهوم ظاهر ونافر يصرّ أصحابه على أن من لا يمرّ بهم فهو مارق، ومن لا يعلّيهم فهو خارج عن الجماعة، فهؤلاء يعتقدون بأنّ النهضة إمّا تأتي منهم أو لا تأتي أبدًا، ويرون بأنّ الانتخابات الأسقفية يفترض ان تتماهى مع رؤيتهم لهذه الأبرشيّة أو تلك، فتستولد منها ليكون الأسقف جزءًا من أنظومتهم الفردانيّة التي لا تشبه أية أنظومة أخرى، وهذا عينًا ما يسمح للخلافات بأن تستمر وتستفحل وتنذر بالانشقاقات والانشطار هنا وثمّة، فيهيمن الفساد بكثافة ومن جديد على موافع عديدة في العمل الأبرشيّ شكا كثيرون منه، وبعيدًا عن الإخلاص للرسالة والشفافية والوضوح، فيسود من خلال ذلك نظام الفوضى الخلاّقة الخطير بمحتوياته السوداء للغاية. الأسقف المنتظر يفترض به أن يحبّ هؤلاء من باب الحرص على موجوديتهم من أجل المسيح ولأنه أب للجميع، ولكن أيضًا بفترض به أن يوضح تلك الناحية ويعالجها بالحسنى والحكمة والرؤية الصالحة وبالمعايير القانونيّة والكنسيّة اللازمة والحازمة والضابطة لكلّ شيء والناظمة للعمل في الأبرشية على كلّ المستويات. تستحقّ الأبرشية أن يكون أسقفها تواصليًّا وليس آحاديًّا أو انعزاليًّا أو متعاليًا يتعاطى مع الناس بفوقيّة آمرة وعصبيّة قاهرة وزجريّة لاغية. فيعمد على تعميم أدب المشاركة أو الشراكة بينه وبين المؤمنين بإحياء نظام الشورى وصولاً إلى إحياء الحياة الشركويّة المفقودة عبر إحياء مجلس مليّ لهذه الأبرشيّة يساعده على العمل والرعاية والتنظيم. فتكون هذه الأبرشية كنيسة واحدة لراع واحد.
أبرشية الجبل تحتاج لأسقف شاب وثّاب، وضّاء ووهّاج، متوشّح بالله، ومتوهّج بالروح وملتهب بناره وملتحف بالنور. يقفز كالآيائل فوق صخور الجبل وسهوله وهضابه، ينثر فوق أرضه كلمة الله، يزرعها ليحصد فيها سنبل الحياة الجديدة، وكروم الخير والبرّ والصلاح. تحتاج لأسقف يقول هذه تغيير يمين الله العليّ في كلّ عمل يقوم به فيقطع باستقامة كلمة الحقّ.
فيا سادتي الأحبار الأجلاّء آباء المجمع المقدّس، أصغوا إلى نداء الروح، لا تصغوا إلى لحم ودم، ولا تكترثوا وتأبهوا لضغوطات بإمكانها أن تشوّش عمل الروح فيكم. كنيسة الجبل تناديكم بأوجاعها وجراحها، وبرجاء كبير لتنتخبوا عليها مطرانًا نهضويًّا تتمثّل فيه قيم الإنجبل، لا سيما أنه سيوضع على رأسه ليولد منه نقيًّا. المطران الجديد، إمّا يكون وجهًا من نور، أو أنّ الأبرشيّة ماضية إلى محنة جديدة لا يمكن لأي امرئ أن يرضى باستيلادها. أبرشية الجبل أرض للمسيح فاتركوه ينغرس من جديد يحمل إليها بشرى فيامته، فقيامتها من قيامته والرجاء أن لا تغرّبوه عنها، والسلام. 

  • شارك الخبر