hit counter script
شريط الأحداث

الحدث - جورج عبيد

جورج مسّوح قامة من نور ومحبة لا تسقط أبدًا

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٨ - 06:02

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قامة من نور كان الحبيب جورج مسوح كاهن رعية عاليه، ألفته على بهاء ساطع وفهم كبير، منذ انتسابي لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وعلونا معه بهذا الفهم إلى ملء قامة المسيح، واستذكرت غير مرّة بأنّ المسيح ينطق بالكلمات الموحاة إليه فتنغرس في لحم التاريخ وتراب الأرض طيبة متفاعلة من التاريخ إلى المستقبل في عقول أجيال تائقة إلى السلام.

في مطلع شبابنا ألفناه محتدمًا وملتهبًا، استند على كتاب الله، وغفا غفوة صغيرة على صدر المعلّم، ليستفيق على فجر مبين انفجر في عقله وقلبه وراح يكتب بضيائه كلمات ليست من هذا العالم وإن امتلأت من قضايا العالم. ليس هذا غريبًا عن من تبتّل للكلمة وجذب إلى نورانيته في رحلة لم تكن سهلة ما بين الكرازة بها في رعيّة قائمة وسط تنوّع تمتزج فيه العقائد السياسيّة بطائفياتها والجدليات الفكرية بمنطلقاتها، وما بين جامعة البلمند حيث كان فيها المسؤول عن مركز الدراسات المسيحيّة-الإسلاميّة، فالكلمة وكما كتب مرّة حبيبه وحبيبنا المطران جورج خضر راقد في ليل الثقافات والأديان أي أنه غدا في جوفها منتصبًا ومتفاعلاً ومتحرّكًا.
إنكباب جورج مسوح على هذا العالم البهيّ انطلق من عالم العقل المجرّد، وقد مارسه أثناء دراسته للرياضيات. المدهش في مسيرته إقباله على الإسلام دراسة وتخصصًّا وفكرًا، وتساءلنا في تلك الحقبة ما شأنه والإسلام وهو المسيحيّ الأرثوذكسيّ، وما الذي جذبه في دراسة الإسلام لينغمس في مدارسه انطلاقًا من القرآن الكريم، ويتبحّر في معرفته ويتخصّص به ما بين معهد القديس سرجيوس اللاهوتي في باريس ومعهد الدراسات المسيحيّة-الإسلاميّة الفاتيكانيّة في روما؟ وبعد هنيهات فهمنا أنّ المطران جورج خضر كان الملهم بكتاباته. علمنا هذا الكبير بأن الإسلام يفهم من مصادره كما تفهم المسيحية من مصادرها، والمسيح ممدود بينهما بتعابير وطرائق بعضها متقارب وبعضها متباعد، والمعرفة بهذا المعنى مصدر كبير للمحبة الجامعة بين المسيحيين والمسلمين. لقد بنى الكبير جورج خضر أنظومتين في الكنيسة الأرثوذكسيّة وفي حركة الشبيبة الإرثوكسيّة.
-الأنظومة الأولى: تجلت فيها آفاق الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ، في مسرى حركيّ متجانس، ساهم فيه أكابر من المسيحيين والمسلمين، المعاينين لله، والمدركين بانّه غير ممزّق في صراع الحضارات والأديان.
-الأنظومة الثانيّة: تجلّت في الحوار المسكونيّ ببلورية مشدودة إلى وحدة مرتجاة، تبطل كل انقسام وتتوكّأ على محبة المسيح لشعبه ووحدته به.
ورث الحبيب الأب جورج تلك الأنظومتين من الكبير المطران جورج، وتمنطق بالمعاني الفائقة الجمال كمعطى كبير مبذول من القلب والعقل، فتصاعد التمنطق عموديًّا معه باتجاه الله للسكنى في قلبه والاستكانة في عقله والاتشاح بضيائه، واستنزله بعد ذلك أفقيًّا مع أكابر كرام تجانس معهم من أمثال السيد هاني فحص رحمه الله ومحمد السمّاك وسعود المولى وعباس الحلبي، فنحت معهم تلك الرؤية الواسعة كواحة للاعتدال ما بين المسيحيين والمسلمين في عالم أخذ عنوة نحو الصدام والعنف وسفك الدماء، وفي لحظة مليئة بالتحولات البليغة في مدلولاتها السياسيّة والجيو-استراتيجيّة.
وقف جورج مسوح في وسط هذا الركام، يواجه الحروفية في الإسلام والمسيحيّة، ويؤكّد غير مرّة بأنّ تلك الحروفية من شأنها أن تحرق المشرق العربيّ برمته. في كتابه "الخيرات الآتية" دعا الرجل إلى التحرّر من الماضويات البالية المصنِّفة للناس، وكان الصديق الكبير الراحل هاني فحص يطرب لكلماته ويستند بدوره إليه، كنا جميعنا نرنو إلى كل خير وبرّ يطلع من قلب الله، فنزرعه بيد واحدة في الأرض الطيبة الظامئة إلى السلام. لقد خشي جورج مسوح على الوجود المسيحيّ من غلاة المسيحيين، وخشي على الإسلام من غلاة المسلمين ومتطرفيه، وخشي أكثر فأكثر من أن يقبض الغلاة والتكفيريون على القرار في المديين المسيحيّ والإسلاميّ، فيتحولون إلى ناطقين باسم المسيحية والإسلام. لقد قلت له مرّة هل ترى محنة للعقل في المسيحيّة؟ فكان جوابه، المسيحية يا جورج تأبى أن تستكين في هذه المحنة وإذا حاول بعضهم استهلاك المسيحيين وإخراجهم من سياقهم الروحيّ والتاريخيّ فسيكون الوجود المسحيّ في خطر داهم. وفي مسرى الحوار اتفقت معه على أن الإسلام يعيش محنة العقل مع تحريف المعنى فيه وإخراجه من التراث الكليّ وأخذه إلى خارج السياق التنويريّ، وهذا ما يؤبلسه أو يشيطنه في الغرب أوروبيًّا وأميركيًّا. كثيرون من مجايليه لن ينسوا مواجهته للقرضاويّ كمؤسس لعالم إسلاميّ متطرّف وتكفيريّ، وبالنتيجة كان يرى مع غسان تويني رحمه الله، أن الأصولية في الدين تولّد الأصوليات الأخرى وهي من مشتل ورحم واحد، والهدف تفتيت المشرق العربيّ بصدام دمويّ عنيف، ودفن فلسطين في وادي النسيان.
على هذا، كان جورج مسوح داعية حوار مسيحيّ-مسيحيّ، بغية البلوغ نحو ملء قامة المسيح. فهم بأنّ المسيحية تنبع من الاستقامة في الرأي بالعمق اللاهوتيّ، ليس عيبًا أن يتطرّف الأب جورج لأرثوذكسيته، شرط أن لا يجرح التطرّف الآخر، فالمؤمن يقبل إلى الآخر من كنيسته فينطلق العناق عن طريق الفهم المشترك، بالينابيع الواحدة التي نرتوي منها، وكان في الوقت عينه داعية حوار مسيحيّ-إسلاميّ، هدفه الحفاظ على وحدة بلدان المشرق العربيّ، وتعميم ثقافة الشراكة بلا حدود بين الناس، وبلا مصنفات عقيديّة وفقهية تبقي المسيحيين أهل ذمّة. وقد خشي أكثر من مرّة من ضمور الحضور المسيحيّ وديمومته، لقد فهم حبيبنا جورج بأنّ عزّة الوجود المسيحيّ مرتبطة بالقضيّة الفلسطينيّة، ومرتبطة بعودة الفلسطينيين إلى فلسطين. لقد شكا كثيرًا من نسيان العرب لفلسطين وجعلها سلعة يتاجرون بها ويقايضون عليها. ومع الحرب في سوريا وعليها أدرك هذا المشرقيّ الكبير بالخطر الشديد على الوجود المسيحيّ والاعتدال الإسلاميّ، وسمعت صوته يصدح في هذه البرية الموحشة حتى داهمه المرض، وعلى الرغم من المداهمة الخبيثة لم يستطع النيل من صوته وكلماته، وقد تحولت إلى منارة نستضيء بها.
على المستوى الشخصيّ كان الأب جورج نديمي وصديقي الأحبّ. رافقته ورافقني، ولا أنسى مطالعته في كتابي قراءة في فكر المطران جورج خضر في ندوة أقيمت في بلدة المنصف. لقد أسبغ عليّ محبته، والمحبة لا تسقط أبدًا. وخلال مرحلة كتابتي لرسالتي الجامعية وقد قضيتها في منزلي في سوق الغرب، تمتّعت كثيرًا بحضوره إلى منزلي حيث كنا نسهر على الشرفة المطلّة على بيروت فتظهر متلألئة كشجرة الميلاد، ويطيب الحديث العميق فيما بيننا، وأحضر بدوري إلى منزله في عاليه ونسهر على شرفته هناك. لقد حثني هذا الصديق الحبيب على قول الحقيقة دومًا في كلّ نقد أمارسه بلا وجل ولا خجل لأنها تنقذ. شهدت على زواجه من ماغي وهبه في كنيسة رقاد السيدة في المحيدثة، وتمنيت يومها على المطران جورج خضر الذي ترأس الصلاة بتلاوة نشيد المحبة الوارد في رسالة بولس الرسول الأولى إلى أهل كورنثوس، فاستجاب بكل رضى لأننا كنا نجد فيه واحة للمحبة، وزواجه بماغي بني على تلك المحبة. لقد جعلت المحبة من ماغي وجورج جسدًا واحدًا، وقد أثمرت ثلاث صبايا عمرهنّ من عمر الورد هنّ رزان ونور ورنا. وشهدت أيضًا على رسامته شمّاسًا إنجيليًّا ومن ثمّ كاهنًا لرعية القديس جاورجيوس في عاليه عروس المصايف، طوال مسيرتي معه كان الصديق والحبيب الذي واكبني في الفرح والحزن، أحببت فيه صدقه مع نفسه ومع الآخرين بلا مواربة ولا رياء، وهذا مصدر احتدامه وعلوّ صوته وإن اختلف معهم ظهر صادقًا حتى آخر لحظة بقناعة راسخة في شخصه، وإن توافق فالقناعة عنده هي الفاعلة وبشفافية مطلقة مليئة بالمحبة ولافظة للمحاباة من قلبها.
جورج مسوح علامة فارقة في تاريخ المسيحية الحديث، وفي تاريخ الحوار المسيحيّ-الإسلاميّ. إنه المنارة المضيئة، والتي لن يتغلّب عليها انكسار الجسد. منذ شهرين اتصلت به بعد طول انقطاع، مطمئنًّا إلى وضعه، فأحسست بثقل الأوجاع فختم كلامه معي، جورج أشكرك على اتصالك بي واطمئنانك إليّ، صلِّ إلى الرب لكي يرفع عني ثقل الآلام لتنهمر دموعي توًّا. ذكّرني كلامه بكلام قالته الشاعرة ناديا تويني للمطران جورج خضر حين زارها في غرفة العناية الفائقة أطلب من معلمك أن يرفع عني صليبه.
جورج الحبيب، وهكذ كنت أناديه في جلساتنا الخاصة، تحرّرت في عيد البشارة من الآلام وأنا واثق أنك ستستريح منها محضونًا من سيدك الذي خدمته على الأرض وبشرت به هنا وثمّة. في رثائه كتب صديقي الأب إيليّا متري وهو صديقك الحبيب الذي مسحك بزيت الابتهاج منذ أيام، لقد قفزت إلى الفصح، أنت ممدود ما بين البشارة والفصح. عزاؤنا ورجاؤنا أنّ الترابية قد فنيت، لقد عشت في بهاء المسيح فجعلك قامة من نور وجعل وجهك من فجر أبديّ. ليس معقولاً أن النور فيك ينطفئ لأنه من فوق. الجسد المتألم سيرتاح، وكما غفوت على صدر الحبيب فتحرك الفجر في داخلك وتكلم بك في الوجود، فإنك ستفيق في يوم البشارة على مدى فصحيّ أزليّ ستذوقه مليئًا في ملكوت المحبة.
ألا أعطاك ربيّ ان تتمتّع بمجده، وأعطانا أن نتمتع بك في لحظة القيامة المرتقبة، ونحيا في بركات الفكر الذي سكبته في هذه الدنيا وأثريتنا بمداده. من مثلك يا جاورجيوس على هذا البهاء، من مثلك يقاوم الألم بالأمل ويتطلّع دومًا إلى وجه الله، من مثلك يواجه بالرؤى الصالحة ويرى بأنّ الإنسان أيقونة الله على الأرض إلى أيّ دين انتمى؟ إرتفع يا صاحبي إلى العلى إلى النور، ونحن سنلاقيك هنا وفوق على تلك الدروب، لنتكامل معًا في ضياء المسيح الحيّ إلى الأبد.
كنت قامة من نور وبعد الغياب ستبقى تلك القامة السّاطعة والشامخة والمضيئة إلى الأبد.  

  • شارك الخبر