hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

سبات قلم

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٨ - 05:57

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

"أَحْبَبْتَ الْبِرَّ وَأَبْغَضْتَ الإِثْمَ، مِنْ أَجْلِ ذلِكَ مَسَحَكَ اللهُ إِلهُكَ بِدُهْنِ الابْتِهَاجِ أَكْثَرَ مِنْ رُفَقَائِكَ" (سفر المزامير مز 7:45).
هذه انما قيلت للمسيح يا ابونا جورج. لكن السيد يعيش فينا في كل مرة نحب البر ونبغض الاثم. فنصير ممسوحين بمسحته الملوكية. لقد احببت انت ايضا البر وابغضت الاثم. وعملت ان تحافظ على مسحتك وكهنوتك وعلى جماعتك التي ناضلت كي تبقى مقدسة. تلك المسحة التي تكلم عنها الرسول بطرس في رسالته الاولى :"وَأَمَّا أَنْتُمْ فَجِنْسٌ مُخْتَارٌ، وَكَهَنُوتٌ مُلُوكِيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعْبُ اقْتِنَاءٍ، لِكَيْ تُخْبِرُوا بِفَضَائِلِ الَّذِي دَعَاكُمْ مِنَ الظُّلْمَةِ إِلَى نُورِهِ الْعَجِيبِ"(رسالة بطرس الرسول الأولى 2: 9). وانا ما عرفتكم الا مبشرا بكل ما اعتبرتموه حقا وبفضائل ذلك الذي دعانا الى نوره العجيب.
اخي الخوري جورج، عرفتكم تعملون كفلاح مثابر في الحقل الذي ائتمنتم عليه، وفي كل حقل في هذه الدنيا دعيتم اليه. فصرتم كاهنا شجاعا لرعيتكم التي امتدت حتى الى كل حدود انطاكية العظمى وسائر المشرق. كيف لا فأصولكم السورية تحاورت وتحابت مع تربيتكم اللبنانية. فصرتم من الروح الانطاكية الواحدة. فكان ان نطقتم بكل ما اعتبرتموه حقا. جعلتم بفكركم في مكاننا خضرة. اخضرّت المساحات بما انزل عليكم مرارا من ومضات نفتخر بها. ومضات اضحت جزءا من ارث مدينة الله العظمى انطاكية وبيروت والجبل وكل مدائن المشرق الذي اضحى فكرا بعد ان تحرر من الجغرافية. وجدت فيكم مطارح تلاقي ما بين العصرنة والتقليد، والإسلام والمسيحية، والتقليد والانفتاح، وسوريا ولبنان، والسياسة والنظم الاخلاقية، والارثوذكسية وسائر العائلات المسيحية، وأخيرا، العلمنة والدين. فغدت أرثوذوكسيتكم مختلفة. فكان ان صرتم الثورة التي فرزت الناس ما بين مؤيد ومعارض. لم تكونوا يوما فاترين. وإني معكم يا اخي تذوقت حلاوة الاختلاف والاتفاق. ومعكم وبكم أدركنا جميعا ان كنيستنا تتسع للجميع ولكل التيارات والتلوينات.
ترحلون اليوم يا اخي في عيد البشارة. وانا لا اعرف تماما ما قد همس به جبريل في اذنكم. علّه قال "اتممتم السعي، وسرتم في مسيرة المحبة والالام المبرحة اربعين يوما وليلة. فها قد وافى زمن القيامة. انتم مدعوون الى مائدة الحمل". وانتم قبلتم على مثال مريم. طهركم الرب يا اخي بالنار على ما اعتقد، فما بقي منكم الا الذهب الخالص الذي استرجعه.
ابونا جورج كنت حاضرا معي في كندا. وقد طلبت الى الاحباء هناك ان يذكروك في صلواتهم، بعد ان علمت بآلامك. تكلمت معهم في جودة فكركم الذي اتفق واختلف معه. قلت لهم :"جميل ان تجد انسانا تتفق وتختلف معه". تكلمت فيكم وفي كل الخصال والمرحلة، والتجليات. فكأنّ مرحلة المطران جورج تأبى ان تغيب على ما يبدو دون ان تسترجع محاربا شجاعا ومعلما ومفكرا وكاتبا. واني اتفهم ذلك، لانّ الفكر لا يعيش الا في مكان خضرة، وفي زمن ارتياح.
اليوم سقط القلم من يد فارس الكلمة في عز المعركة. سقط القلم، والفارس مضى الى مكان الارتياح والخضرة. وقلمك كان سيفا قاطعا بفكره لا يهادن على قناعاته. سقط القلم من يد الفارس، وما لم يسطره على صفحات الوغى والنضالات من اجل كنيسة افضل ووطن افضل وشرق افضل، هو الجزء الاهم. صارت حياته رواية، لا بل فقرة من روايات الحياة.
خبر رقادك كان الحدث الذي اربكني لحظة وصولي مساء امس من كندا. كما انّ زيارتك اليوم في كنيستك هي حدث لن انساه ابدا.
يا اخي الخوري سأفتقد كل مكالماتك والنقاشات والحوارات في انطاكية ولبنان وسوريا وسائر المشرق والعالم. وستفتقدك اروقة الحوار المسيحي الاسلامي وكل الحنايا والمحاضرات والمؤتمرات.
دعوتني مرة الى زيارتك في عاليه، انا وصفاء والعائلة. ووعدتك بان نلبي. وها انا قد اتيتك اليوم يا اخي. لبيت دعوتك فوجدتك ممسكا بالانجيل على عادتك وستار الكأس المقدسة يغطي وجهك، وكهنة الجبل من حولك في يوم عرسك. قبلتك وقبلت الانجيل الذي خرجت منه وتعود الى دياره. وصليت كي يتقبل رب مملكة الانجيل نفسك. وتمتمت في حضورك لالهك المتواضع والمحب والعارف مكنونات القلوب بضع كلمات. صليت كي يبقى في كنيستنا مطارح خضرة وساحات نضال من اجل ذلك الفقير والمعذب والمهجر والمظلوم الذي لا يجد مكانا يسند اليه رأسه. صليت كي يمسح الله ما تبقى من المحاربين بدهن الابتهاج. سلمت على شفيعك وسألت شفاعته. وتشددت من محبة عائلتك. قبلت يد الام، وصافحت الزوجة والبنات الثلاث. ذرفت بضع دمعات. وصرت ارتل في صمتي للقائم من بين الاموات الذي طالما جعلك كاهنه. ودعتك بحرارة، ورتلت على نيتك ونية قومنا:"المسيح قام! حقا قام!"

  • شارك الخبر