hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

أميركا في نسختها الثانية

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٨ - 06:12

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لا اعلم يا ولدي بماذا اكلمك به من هنا، من هذه البلاد البعيدة. اشعر يا ولدي بانّ أمريكا قد أضحت مكتفية بذاتها، فأعلنت انسحابها من قضايا العالم دون كبح فرط ادمانها على موارده وثرواته. ما عادت كثيرا ما تعلمناه عنها. ما عادت بلد الحلم الأمريكي بل انّ الحلم قد بدأ يتحوّل الى كابوس امريكي طويل، أخشى.

قيل لي بانها دفنت البارحة بنسختها القديمة ومعها زالت عقيدة وفكر الرئيس ترومان ونضالات كينيدي ومثالية روزفلت. وها انّ نسخة جديدة بدأت تظهر. نسخة لا تشبه احلامنا يا ولدي. نسخة تجعل منك مشبوها بمجرد أنك من دول الشرق الأوسط. نسخة لن تسهم في جعل العالم مكانا أفضل بالتأكيد. فأميركا بدأت تتخلى عن الترياق الذي جعل منها ارض الفرص والاحلام.
الحلم الأمريكي هو الفرص والخير والبحبوحة والانفتاح والغد الأفضل يا ولدي. نما الحلم، فكانت أمريكا. فكانت وكان العالم أفضل بكثير. كان أكثر أمانا ورفاهية حتى في عز ازمنة الحرب الباردة الى ما بعد تفكك المعسكر الشرقي بقليل.
ولد الحلم في معدة الفقراء والمحرومين وشغفهم للبحث عن حياة أفضل. ففقراء أوروبا والعالم أدركوا انّ بلادهم ليست لهم. فكل شيء في تلك القارة العجوزة كان لحفنة. ضاقت بهم ارضهم حتى صارت سجنا هم زبائن فيه ليس الا. فكان ان فروا الى بلاد ابعد، وتركوا الاسياد مع الألقاب والقبور. وصلوا شواطئها هائمين ومتعبين وجائعين. افرغت السفن حمولاتها على شاطئ المحيط. فراحت تلك الحمولات تبحث. فوجدت في تلك الأرض فرصها الضائعة وآمالها المهدورة. فتحت لهم تلك العوالم حدودها وقلبها وارضها ومواردها دون ان تمس بخصوصيتهم. فكان ان اغنتها خصوصيتهم وتراكم حضارتهم. وجدت تلك الحمولات الهاربة من الظلم والفقر والاضطهاد فيها الملاذ. فكان ان نما القادمون، وهي نمت بهم. كبر فيهم ومعهم الحلم الأمريكي. وأسس كل منهم له بلدته ومدينته وحتى دولته. وما كانت السلطة المركزية تتدخل في امورهم الا قليلا جدا. فالسلطة تستهلك الفقراء، وتبني جبروتها من سلب حرياتهم.
وسعت سماؤها لكل أطياف البشر. فصارت الوعاء الوسيع الذي تنصهر فيه الهويات، فتخرج الهوية الواحدة والعنوان الواحد للحرية والازدهار والعمل والتطور. هوية عنوانها هناء العيش ورغده وجودته. كان أولئك من صنع أمريكا. وهي كانت تنظر لكل قادم نظرة رجاء ومحبة، وليس كغريب ومجرم على طريق الإدانة، وارهابي.
كانت أمريكا مملوكة من الجميع. كانت بغالبيتها للناس. واناسها آمنوا ووضعوا آمالهم بربهم. لم يهجر أهلها الأرض عندما طوروا الصناعة والتجارة والبنوك. فكانوا ان غزوا الكوكب بالمبتكرات والابداع. فتحوا بواباتهم للقادمين، وكل قادم قدم بفكرة او ابتكار. فكانت بلد الابتكار والتنوع. كان في أمريكا حلما، والحلم تأسس على مبادئ واخلاقيات تصنع وتصون حضارة.
وكبرت اميركا ودحرت الشيوعية. فتفلتت الرأسمالية من كل القيود والضوابط، وكشّرت عن انيابها فصارت تلتهم كل شيء في بلادها. فالشيوعية قتلت شعوبها لكن روّضت الرأسمالية في معاقلها، فتلطفت بالفقير.
وبدأ الحلم الأمريكي يتآكل ويتحوّل الى كابوس. والخيرات والثروات والموارد صارت في ايادي حفنة، لا تنظر الى الناس الا كمسددي ضرائب ووحدات انتاج.
تراجعت اميركا مقارنة بأميركا. واستفاق جن التقوقع والعنصرية والالغاء مجددا. واستفاق الوهم والوهن والخوف. فصار الاخر مفزعا ودونيا وارهابيا. ومن يدخل اليها من دول التي يعتبرها الرئيس ترامب "حفر القرف" يبلغك حتما بماذا يشعر. وذنبه كل ذنبه بانه قد ولد في بلد كلبنان مثلا وسافر مع شخص ما جرى الاشتباه به لاحقا.
في زمن الحلم كان ينظر الى كل قادم اليها كأخ عظيم سيزيد في عظمتها. اما اليوم فلا. لا ليست هذه أمريكا التي درسنا عنها في جامعاتنا. لا ليس هذا هو الحلم.
 آه يا ولدي كم نحن بحاجة اليوم الى أمريكا الرئيس روزفلت والرئيس كينيدي والرئيس لينكولن!
 كم نحن بحاجة الى الخير واهل الخير في عالم اليوم!
 آه كم نحن بحاجة الى من يعود فيصنع اميركا عظيمة من جديد، عظيمة وكبيرة بمبادئها وانفتاحها وبحملها اثقال العالم.
حزين بيت الجادة الأولى الدولي في نيو يورك المطل على النهر، الذي ترك برتابة يواجه تحديات العصر ومصيره.
حزين هو لأنه يفتقر الى المشروعات والإرادة السياسية. اؤتي به الى ارض الحلم والخير والمشروعات. واذا به في ارض غريبة.
لكن لن ولن ندع العالم يتحوّل الى ما قاله "آل باتشينو" يوما في رسالته الى الشيطان في فيلم الاب الروحي (الجزء الثاني) بانّ "الأمور هنا تسير على النحو الذي تريد، حيث الناس أصبحوا أكثر سوءا منك". وسنبقى نصلي ونعمل ونكافح كي ننقذ الاحلام والمشاريع والسلام والعالم. وسنصلي جميعا من اجل اميركا والحلم. نصلي كي يبقى الحلم الذي يجعلنا عظاما وجددا. هذا هو قدرنا في وسط هذا العالم الغارق في الطمع والوهم حتى الوهن.


 

  • شارك الخبر