hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

الى مصر مع نجيب محفوظ

الثلاثاء ١٥ آذار ٢٠١٨ - 07:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ابلغته باني مغادر الى مصر. فسأل عن سبب زيارتي، وعما إذا كان "توت عنخ امون" قد استدعاني. أبلغني عن عظمة مصر القديمة وبهاء حضارتها، لكنه حذرني من الفراعنة ورغباتهم التوسعية. حذرني من الصحاري. ابدى عليّ حرصا وقال انتبه يا ابي. فأبلغته بانّ "توت عنخ امون" يرقد. وبانّ الحضارة الفرعونية صارت اثرا لا يمت الى الواقع بصلة. فأجاب بانّ الحضارات لا تنتهي بل تدخل في سبات. أراد ان ارفده بما سأعاين من احوال بقرات مصر العجاف التي تتكاثر كثيرا وتأكل الثمان.

أوصاني ان أزور الاهرامات وألقي التحية على ابي الهول ناطور تلك الحضارة العظيمة. وطلب اليّ ان أفتش في حنايا الاهرامات عن اسرار المخلوقات الفضائية التي بنت تلك الشواهد، وصنعت حضارة النهر السحري العظيم. طلب اليّ ان استقصي عن أسباب تراجع النهر العظيم وانحسار خيراته. ففي تراجع مفاعيل النهر العظيم وقدراته رسائل يجب ان تفهم وتتلا. سألني ان ابحث عن صلاح الدين فابلغه عن الازمة الكردية-العربية.  حذرني من إبراهيم باشا وسطوته. قال لي انتبه ان تضيع في زواريب المدينة الفاطمية فلا تعود تخرج. 

زودني بورقة وطلب اليّ ان ارميها في مياه النهر العظيم. قال بانها طلسما يفك الأرواح من كبوتها.  قال: "خذها وارمها في المياه يا ابي، والنهر يعرف تماما الى اين يأخذها. فعلى ضفته الأولى وادي الملوك المعذبة في دنيا الأموات. هناك تنتظر اجسادها نهاية الايام.  وعلى جهته الأخرى وادي النطرون الذي هو للراقدين. طلب اليّ ان أشدو للنيل غنوة، واشرب من مياهه.

وتذكّر العائلة المقدسة الهاربة الى مصر من غيّ هيرودس. فطلب اليّ ان أفتش عن يوسف هناك واوصيه ان لا يعود. فأبناء هيرودوس مازالوا يفتكون في الأولاد في امكنتهم، ويفتشون عن الطفل في كل مكان كي يقتلوه.

فتطلعت به قائلا: "سأزورهم جميعهم". كما أنى سأزور خان الخليلي يا ولدي. والتقي نجيب محفوظ في مقهى الشيشاوي. فكان ان سألني عن نجيب محفوظ وعما إذا كان فرعونا او مطربا او ممثلا او شيخا. فكان ان اجبته بانه أديب. والاديب يبقى العارف الأكبر بتموجات الأمكنة وصوت الناس. يبقى العارف بأحوال قومه. قلت له بأني سألتقيه واجول معه في التاريخ وفي الواقع، قبل ان أقدم على أي خطوة في المجهول.

 

 

ومضيت الى هناك مع بداية افول الشتاء. فكان ان عاينت كيف تجتاح معدلات الولادة الأمكنة، وكيف تلتهم الافواه المعالم.

قابلت أبو الهول الذي أعرب لي عن قلق شديد جراء تمدد البيوت والناس باتجاه مملكة الاهرامات التي كانت غارقة في صمت الصحراء والنسيان. ما كان ثابتا في مصر كان الفرعون، الذي كان شعبه يعبده ويحبه. اكتشفت في وسط جماعات الناس التي كانت تطوف في الطرقات ومضات. فكان ان سررت. سلمت النيل رسالة ابني، وانشدت على مسامعه اغنيتي.  ومضيت ابحث في وسط الحشود عن نجيب محفوظ الذي كان يقول "أدب الناس بالحب كما علمتك، ومن لم يؤدبه الحب يؤدبه المزيد من الحب". فوجدت في وسط الحشود "ما لا أبحث عنه". فأبلغت بأنه الرجل هجر، بعد ان شعر بغربة في وطنه. وقد سمع يقول "زمن المبادئ مضى، وابتدأ زمن الهجرة". قيل لي انّ طعنات الزمن فعلت فعلها به. فكان ان جلست يا ولدي على كرسيه في مقهى الشيشاوي، وتلوت في صمتي كلماته. تأملت عميقا في "أولاد حارتنا" و"الشحاذ" وفي "بداية ونهاية وثلاثية القاهرة". وسألت "كيف يتسنى للحب والسلام أن يعيشا بين الفقر ونبابيت الفتوات". ابلغته باني اتيته كي أقول: "آفة حارتنا هي النسيان" أيضا، فلا تحزن. ووعدته بأن لا نستسلم للواقع، بل ان نعمل لجعله أقرب الى احلامنا. وعدته بان نعمل كي لا يجيء يوم "يطالب فيه الذباب بحقوق المواطن" في دولنا.

ارتشفت فنجان الشاي، ومع الشاي ارتشفت سحر وويلات مدائن الشرق. ارتشفت فنجان الشاي يا ولدي المصنوع من مياه النيل. ودّعت مصر وعدت الى فينيقيا وجبل اللبان، وقد اديت مهمتي. عدت وفي بالي مصر والنيل والاهرامات والبقرات العجاف. عدت وقد تبددت مخاوفي من الغد. لأنه وكما أبلغني اديب مصر الكبير: "الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة". ونحن كنا وسنبقى اهل الحياة وشهودا للتغيير.   

  • شارك الخبر