hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - جورج عبيد

إستقلت من الأبرشية لكنك لن تستقيل من قلوبنا

الإثنين ١٥ آذار ٢٠١٨ - 06:18

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

سيدي الحبيب،
أورثتني في لحظات الحب الكثيف بهاء وجه شعّ من مقلتيك وقلبك وامتدّ إلى أحبائك لتخطفهم برقّة قلب وعذوبة حضور ونقاوة نفس وعمق فكر إليه بلا تردّد بل بكثير من التودّد حاضًّا الناس على تذوق الكلمة بل أكله ومضغه ليصير كلّ لحمنا ويسري دمه في عروقنا بلا انفصال ولا تشوّش بل بحبّ ومعرفة وفهم.
لم أرك أيها الحبيب سوى مطران المحبة. وهل أجمل وأرقى وأبهى من هذا اللقب؟ ألم يقل سميرك ونديمك بولس الرسول، "لو كان لي العلم كلّه ولم تكن فيّ المحبة فإنّما أنا صنج يرنّ ونحاس يطنّ؟" علمتنا في مسرى مراهقتنا وشبابنا كيف يكون البذل والعطاء بهذه الصفة وليس بصفات ابتدعها بعضهم لنفسه. وقدتنا إلى مساحات من النور تجلّت في معاني الخدمة لمن فهمها على أصولها، وعلّمت من صيّرته كاهنًا أو شمّاسًا، بأنّ الكهنوت والشموسية خدمة ينبض فيها دم المحبة، والكاهن يصير غاسلاً للأرجل كمعلمه، أمّا من تخلّى عن هذه الحقيقة فهو عشير السلطة بإغراءاتها الفاسدة والمارقة. فمن تغرّب عن الخدمة الحقّ فسد حتى النهاية.
سنة 1970 انتخبك المجمع الأنطاكيّ المقدّس برئاسة البطريرك الشهيد الياس الرابع مطرانًا على أبرشية جبل لبنان، وفي سنة 2018 قدمت استقالتك. مسيرة عمرها ثمانية وأربعون سنة زرعت الإنجيل على أرض صعبة في تضاريسها الجغرافية والبشريّة. جئت من الفيحاء مرورًا باللاذقية وحمص ودمشق، حاملاً إلى الجبل خطابًا مشرقيًّا نابعًا من أنطاكية، حاضنًا لفلسطين بجرحها الكبير، وقلت بأنها مستعادة، وجعلته عنوانًا لحضورك الفذّ والكبير في الجبل ومنه إلى لبنان والمشرق العربيّ، وأطللت بتلك الهالة على المسلمين تحمل إليهم لطف يسوع، وقلت لهم بالآلام والآمال، إنه راقد في كلّ الأديان وليل الثقافات، فجعلوك إمامهم، منذ أيام الجامعة اللبنانية إلى جامعة البلمند، وكنت شاهدًا كيف كنت تعلّم المسلمين كتابهم بحبّ عظيم وكبر ورقيّ، وتفسّر لهم طريقة كتابة الآيات البيّنات فيما أئمّتهم ينظرون إليك بدهشة كبرى، غير مصدّقين بأن مطرانًا مسيحيًّا مستقيم الرأي يعلّمهم أصول الكتابة القرآنيّة، وتقول لهم هذا كتابكم وأنا غير معصوم عنه، ولكنني أنطلق إليكم بكتابي وفيه قال يوحنّا الحبيب الله محبة، وأحملكم بهذه الملاطفات الصادرة من القلب والعقل إلى وجهه الكريم غير الممزق بصراع جهالاتنا.
أكابر المسلمين يا سيدي لجأوا إليك وارتضوك مرجعًا وشريكًا في التأسيس أو التكوين الفكريّ للبنان الغد ولعالم جديد. كانوا إليك من المغفور له الشيخ صبحي الصالح إلى المفتي حسن خالد إلى الإمام المغيّب موسى الصدر إلى الإمام محمد مهدي شمس الدين والسيد هاني فحص رحمهما الله، إلى المعلّم كمال جنبلاط والرئيس حسين الحسيني، إلى حواراتك المكتوبة والمرئيّة مع المغفور له العلامة السيد محمد حسين فضل الله، وارتضيت أن تغوص معهم في الأعماق البعيدة مستنبطًا الرؤى المنجيّة لهذا البلد من التمزّق، وقد رأيتها بالفعل وكتبت عنها وعالجت عناوينها، ورفضت أن يصنف الإعلام الغربيّ بأنّ الأحداث متأججة بين حيّ مسيحيّ وحيّ مسلم، وحضنت معهم فلسطين المصلوبة، وقد شهد الشاعر المقدسيّ محمود درويش والمفكر المستشرق إدوارد سعيد على نوعية الاحتضان وواكبت بالرؤى عينها محطات شعرية أطل بها أدونيس وبدر شاكر السياب وخليل حاوي ويوسف الخال وسعيد عقل وناديا تويني، إحساسك بتاريخ أشور وبابل جسدته في سوريا ولبنان والعراق وفلسطين، وعلا صوتك: نحن أهل الحب في هذا المشرق باقون في لبنان وسوريا وسنستعيد فلسطين مهما جار الظلم وجاز في لحمها.
لم تحصر هذا الكلام للمسلمين من خلاّنك، وكنت تستعذب خلال فصل الصيف كتابة مقالاتك على شرفة المنزل في طرابلس وتستمتع بالآذان، بل كنت تقوله للمسيحيين، واسست مع آباء كبار منهم خطابًا مسكونيًّا وعربيًّا مواكبًا للجراح، وحركيًّا همّه نحت لغة جديدة في الوسط المسيحيّ ينبذ كل عزل وانعزال ويواكب المسلمين ليس من باب المعيّة بل من باب الشراكة الحقيقيّة في إحياء أدب ميثاقيّ مستند إلى الهوية العربيّة الجامعة واللبنانية الموحدة. لطالما تفاخرت غير مرّة بأنّك مع أقرانك سعيتم للتأكيد على نهائيّة لبنان ضمن المدى المشرقيّ العربيّ، وكان الأبوان يواكيم مبارك وميشال حايك يبسيران معك على تلك الدروب المباركة فضلاً عن نخبة راقية من المفكرين من أمثال ميشال أسمر، سمير عطالله، غسان تويني، وجذبت بهذا الفكر عينًا من غرّبتهم الشيوعيّة بعلمانويتها وليس باشتراكيتها عن الحقيقة المسيحية فجئت بهم إليها من امثال أمين معلوف وسيمون كرم وجورج ناصيف والياس الخوري وآخرين، وشجعتهم على تأسيس اليسار المسيحيّ حتى لا يتزعزع إيمانهم وكنت إمامهم ومرشدهم ليس في الحالة اليساريّة بل في البهاء المسيحيّ واشتراكها معك على حمل فلسطين في القلب والعقل.
كلّ هذا جعلته قرين النهضة الكنسيّة المجيدة التي صنعتها يداك، ولم تخرج من فيك إلاّ من بعد ما قذف مولاك أنوارها في صدرك فغدت ينابيع صافية كالبلور انفجرت من الصخرة وعمّت أنطاكية بسهولها وروابيها وجبالها وحقولها. رأيت هذا المدى كنيسة الحبّ، كنيسة تبدأ بالمستقيميّ الرأي وتتوسّع نحو الجميع بديناميات لم تكن مألوفة من قبل، فسادت على اللغات الخشبيّة وكلاسيكية النطق، فكنت بذاتك لغة قدمتها للناس من الكنيسة إلى المجتمع. لغة ثائرة اخترقت المصنفات البالية حاملاً سوطًا جدلته من كلمات المعلّم الإلهيّ، لتضرب يباس القلوب وتصحّر العقول، وتصخّر النفوس وتدافع عن الضعفاء والمكلومين وتحملهم إلى كرم المسيح الحياة الشافي أمراضنا بالحنان. لم تكن كنيسة المسيح عندك كنيسة حجارة وقباب، ولم تكن في الوقت عينه كنيسة الأثرياء يجعلونها ملعبًا لهمينة يبتغونها ومصالح يشترونها، بل كنت تذكر بقول ليوحنا الرحيم بطريرك الإسكندريّة الفقراء سادتنا في الكنيسة. لم تسد عليك لغة الأعمال طوال رعايتك، بل فصلت بينها وبين الإنجيل، ونمت فيه وكأنّك يوحنّا الحبيب تسند رأسك على صدر حبيبك وتعبّ منه ملء اللاهوت وتخرج لمواجهة العالم بهيًّا نقيًّا.
أيها الوجه الرائع والحبيب، تركت الأبرشيّة بكبر، وأكرمك ملاك أنطاكية الحبيب يوحنا العاشر وقد كنت ولم تزل أباه الروحيّ بوسام القديسين بطرس وبولس رصّع به صدرك، ولم تغادر القلوب والعقول، لم تستقل منّا وعنّا ولن نكون سوى منك، إنها حقيقتنا يا أبي المطران. هل تذكر ما كنت أقول لك؟ كنت أقول أنك ولدتني في المسيح يسوع حين قدتني إليه بعمل العقل، أنت من جعلني أقبل على هويتي المشرقيّة ولغتي العربيّة بأنك أفهمتني بأنّ المسيح منغرس بها وبلا انفصال لتغدو لغة الثالوث لغة المحبة والشهادة، وأفتخر بذلك. أنا لم أعرفك كما عرفك والدي وكنت عشيره منذ أكثر من سبعين سنة من أحياء طرابلس العتيقة إلى وادي النصارى وصولاً إلى بيروت، أنا عرفتك من بعدما صدمني غضبك على الذين يلحنون في قراءة المزامير في الكنيسة ولا يجيدون ضبطها بالحركات المناسبة... في البدء لم أكن أفهم هذا الغضب، ومع الوقت فهمت أنك لا تريد تشويهًا للغة حتى لا يبطل المعنى اللاهوتيّ. وحين انخرطت في حركة الشبيبة الأرثوذكسية فهمت من أنت، وفهمت بعد حين من أنا. أنا كنت تائهًا في براري الصراع على الهويات بصراع القوميات، وكم كنا مغشوشين بتفاهات بعضهم لأنهم تغربوا عن الأرض، وحين صعدت إليك بمعية والدي وجلسنا على تلك الشرفة المطلة على الوادي الجميل نحاكي بها صنوبراته في برمانا فهمت منذ تلك اللحظات من أنا، فبتّ جزءًا اساسيًّا من تكويني الفكريّ والأدبيّ والسياسيّ واللاهوتيّ. لقد سطع وجه يسوع في لحظات لم أكن أقرأ كتابًا عربيًّا، لم أعرف كيف فسرت المقطع الإنجيليّ الخاصّ بالغني ولعازر، كان الإنجيل دليلي لأعود إليك وأغفو كالطفل الصغير في حضن معلمه، وكأنني في حضن أمي، ألم يقل أفراهات السريانيّ بأن الله أم؟ كيف أنسى احتضانك لي إن نسيت ذلك فأكون عقوقًا. لقد احتضنتني ورافقتني وآزرتني وأرشدتني، وفي اللحظات الجلّى يوم رحل أخي جئتني بدمعة ورجاء، وحملتني مجدّدًا بهذا الرجاء إلى يسوع المحبة والحياة، وبعد ذلك كللتني على زوجتي ورافقتنا في حياتنا الجديدة، وعمدت ابني فادي على اسم الآب والابن والروح القدس، وحين رحلت أمي وقفت معنا تمسح عن عيوننا دموع الحزن وتغسلها بنور منسكب من فوق. حقًّا إنك مطران المحبة والرجاء في زمن المحن.
سيدي وأبي جورج خضر، استقلت من رعاية ابرشية جبل لبنان بعد ثمانية وأربعين سنة قضيت في خدمتها. لكن ثق انك لم تستقل ولن تستقيل من قلوبنا وعقولنا. مسيرتك الفكريّة لن تتوقف، وستظلّ المنارة التي نقصدها في العتمات للاستنارة بها. أبرشية جبل لبنان لن تنسى أنك راعيها وحبيبها، والشباب في أنطاكيا بأجيالهم لن ينسوا أنك كنت الملهم لهم والمحرك لنشاطاتهم حتى يدركوا الحقّ، وقد علمتنا مبادئ العشق الإلهيّ، وأفهمتنا أنّ المعلّق على الخشبة هو العشيق والمعشوق، ومن بعده كل عشق ترابيّ، وهو فوق كل خلاف وانشقاق، هذا رايته فيك محتدمًا إلى أقصى حدود الاحتدام، ورأيت نفسي مرميًّا على مساحته البلوريّة منغمسًا بالضياء المنهمر من عينين جميلتين ليس فيهما سوى الصفاء. أنت يا سيدي أقوى من المحن، أناس يبقون ومن ثمّ يرحلون أما أنت فباق فوق لجج الموت خالد مع الكبار تسطع بالكلمات وتسوح بين الأيقونات وتصرخ بنا معنا هو الله فلا تتغربوا عنه ولا يحجبوا وجوهكم عن وجهه لترسخوا في هذا الوجود غير آنين ومحبطين . أدامك الله بنعمته، وجعلنا نفرح بمئوية تكتسبها من لدنه، وأنا بدوري سأحفظ الوديعة التي سلمتنيها كما سلمتها لكثيرين، إنها ليست وديعة الفكر المجرّد، بل وديعة المحبة مصدر كل فكر ووجود. يا مطران المحبة سأبقى أحبك وأمينًا على تراثك إلى النهاية، إنه تراث المحبة، والله محبة. 

  • شارك الخبر