hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

معاني الصوم الكبير

الأربعاء ١٥ شباط ٢٠١٨ - 10:04

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

"ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيّرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحقّ اقول لكم إنهم قد استوفوا اجرهم" (متى6: 16)."
لا يتجلّى الصوم الكبير في عطفه على منابعه التاريخيّة، والقول بأنّ شعوبًا قبل مجيء المسيح قد مارسته، وفي العهد القديم شواهد واضحة على تلك الممارسات بخاصّة مع موسى قبل استلامه الشريعة، وهذا منصوص في سفر الخروج "فصعد موسى إلى السحاب، فغطّى السحاب الجبل، وحلّ مجد الرب على جبل سيناء وغطّاه السحاب ستّة أيام، وفي اليوم السابع دعي موسى من وسط السحاب، وكان منظر مجد الرب كنار آكلة على راس الجبل امام عيون بني إسرائيل، ودخل موسى في وسط السحاب وصعد إلى الجبل، وكان موسى في الجبل أربعين نهارًا وأربعين ليلة" (الخروج 24: 15-18). وأكّد موسى نفسه في سفر تثنية الاشتراع أنّه صام قبل استلامه الشريعة، فال: "وحين صعدت إلى الجبل لكي آخذ لوحي الحجر، لوحي العهد الذي قطعه الرب معكم، أقمت في الجبل أربعين نهارًا وأربعين ليلة لا آكل خبزًا ولا أشرب ماءً، وأعطاني الرب لوحي الحجر المكتوبين بإصبع الله، وعليهما مثل جميع الكلمات التي كلّمكم فيها الرب في الجبل من وسط النار في الاجتماع، وفي نهاية الآربعين نهارًا والأربعين ليلة اعطاني الرب لوحي الحجر، لوحيّ العهد" (تثنية 9: 9-11)، وقد كانت الكلمات المكتوبة على لوحي الحجر كلمات العهد أو ما سمي لا حقًا بالوصايا العشر.
لم يصم موسى فقط من أجل استلام لوحي العهد بل صام من أجل الخروج من أرض مصر إلى أرض الميعاد، وهو ما سمي بالفصح اليهوديّ. وإيليّا صام بدوره أربعين يومًا من أجل أن تمطر السماء فأمطرت. ليس الهدف من سرد تلك الشواهد الغوص في مقارنات ومقاربات تاريخيّة كانت قائمة، أو حالية موجودة عند إخوتنا المسلمين خلال صوم رمضان. الهدف من الصوم بشكل عام وعند الأديان التوحيدية كافة، أن تحيا في كلمة الله، أن تأكلها خبزًا سماويًّا تنزل عليك وتحلّ فيك، والمتصوفة يقولون بأنّ الغاية ان تصير في الله ضمن مسار واحد. الله في الصيام هو البدء والمنتهى وهو الهدى والمبتعى. تتخلّى عن جسدك، تبيد الترابية فيه حتى يصير وعاء للضياء المنهمر عليه في اشتداد لحظات البهاء.
عند المسيحيين الصوم حب وعشق. ليس في هذا التوصيف مبالغة، بل هو الحقيقة المستندة إلى فعل تمّ مرّة واحدة في المسيح يسوع، وفيه كشف أنّ الله محبة كما قال يوحنّا الرسول، حين علّق على الخشبة. السؤال المطروح على المسيحيّ، المختوم بختم الروح القدس لحظة خرج من جرن المعموديّة، كيف تحيا مسيحيّتك أو تصف نفسك مسيحيًّا، إذا لم تبصر بعينيك وتعاين بعقلك وتحسّ بقلبك عمق المحبّة وسطوعها ومجانيتها الكاملة في آلام المسيح وموته وقيامته؟ لقد ذهل شعراء كثيرون بالحب الكثيف الساطع من عينيه، وتحوّلوا إليه بهذه المشاهدة الكبرى. إيقاع الصيام الكبير منطلق من هذه اللحظة الكاملة وهاتف إليها بأجسادنا وأرواحنا وأفواهنا، فتتحرّر من القيود الحديديّة القاسية، وترنو عيوننا فقط إلى المسيح السكيب حبًّا بنا ولأجلنا. في هذه اللحظة العظيمة، أي خلال الخمسين يومًا التي تسبق الفصح يستذكر المرء، "أن ما من حبّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عمن يحبّ". فإن أمسكنا عن الطعام وامتنعنا عن بعضه، فهو اندراج ودخول في سرّ العلاقة مع السيد المبارك، وتحوّل بالتوبة الكاملة، حيث تتمتم الشفاه خلال صلاة النوم الكبرى، دعاء القديس أفرام السريانيّ أو السوريّ، "أيها الرب أعتقني من روح البطالة الفضول وحبّ الرئاسة والكلام البطّال وأنعم عليّ أنا عبدك الخاطئ بروح العفّة واتضاع الفكر والصبر والمحبة، نعم يا ملكي وإلهي هبّ لي ان أعرف ذنوبي وعيوبي وألاّ أدين إخوتي، فإنك مبارك إلى الأبد، آمين".
من هنا الصيام ليس فريضة حروفيّة قاسية، إنه نظام روحيّ طيّب ولذيذ، يطلب في سبيل نجوى الروح والقلب، في سبيل أن تدرك إنسانيتك لصيقة بالله الحبيب، وأن تشفّ وتعفّ، وتلاقي الآخر بصفاء عقل وبساطة روح. "فلا يزدرِ الذي يصوم من لا يصوم"، السيد يطلب رحمة لا ذبيحة، "ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين..." العبوسة عند الصائم فريسيّة ممجوجة وممقوتة لدى الله، وإدانة الآخرين الذين لا يصومون أو يأكلون اللحم يرذلها الله ويلفظها، والسيد في تجواله واجهها غير مرّة.
للصوم خطان، واحد عموديّ متصاعد نحو الله، وآخر أفقي ممتدّ نحو الإخوة. بمعنى أن الصوم صليب نصلب عليه وفيه أهواءنا وشهواتنا بأجسادنا. إنه لقاء الشخص مع المسيح، ولقاء الجماعة معه في وسط الكنيسة. في اللقاء الشخصيّ بين الشخص والمسيح، تتجلّى الكلمات ويرتفع القلب والعقل إليه، بالانكباب على الكلمة والصلوات الفردية، وفي اللقاء الجماعيّ يتمّ الانكباب على الصلوات في وسط الكنيسة، ومناجاته كجسد واحد، أو كأمّة واحدة بحسب تعبير بطرس الرسول. وعلى الرغم من ذلك، ليست المناجاة اللفظية هدفًا وغاية، بل لقاء الأخ والتوادّ التحابّ معه والتعاطف مع واقعه هو الهدف. ليس الهدف في الصيام أن تعلن أربعين مرة يا رب ارحم، أو ارحمني بالله أنا عبدك الخاطئ باللسان بل بالقلب والفكر مع الإخوة في ألفة ووحدة وتجليات تعبّر عن قدرة الجماعة على التعاضد وإرساء نظام شراكة فيما بينها. ثمّة افتقار وافتقاد إلى تلك الروح السامية في تحديد معنى الشراكة بين كلّ الناس في الصيام وخارجه، والطامة أنّ المؤسسات الكنسية بصورة عامّة بدأت تغفل تلك الأدبيات الراقية والرسولية، بتحولها إلى منطق استهلاكيّ مغاير للحقيقة الإنجيليّة. قد يفرض النظام الاقتصادي الليبراليّ إذا ما توحّش أنماطًا توازي الفلسفة الاستهلاكيّة، لا سيّما في التوازن ما بين الحقوق والواجبات، وفي العلاقة ما بين الكنيسة والدولة، والكنيسة والمجتمع، والكنيسة والأنظمة السياسيّة والاقتصاديّة، وهذا الأمر بجدليته وحركيته، يتطلّب بالفعل قراءة متعقلنة ومتبصرة متبحّرة في الأعماق. غير أنّ العلاقة لا يفترض بها أن تفقد الكنيسة خصوصيتها الحاوية والحاضنة للفقراء، ولا يفترض أيضًا أن تجعلها مؤسسة للأثرياء لا سيّما في المجالات الطبية-الاستشفائيّة والتربوية.
الخطورة هنا أن تجنح الكنيسة بمؤسساتها نحو منزلق خال من شراكة المؤمنين لبعضهم وشراكة المؤسسات الكنسية مع المؤمنين، وقد بدأنا نتلمس الشرخ بصعوبته وقساوته يجتاح الكنيسة هنا وثمّة. فلا الأثرياء يتعاضدون ويتعاطفون مع الفقراء، والمؤسسات الكنسية بدورها تلفظهم إلى خارج، مع الأخذ بعين الاعتبار بأن بعضها أرسى نظامًا تعاضديًّا. السؤال المطروح على أذهان الآباء في الكنيسة المهرولين باتجاه رفع الأقساط المدرسية في لبنان، والقائلين بضرورة تعزيز المدرسة الرسمية، أو أن تقوم الدولة بتقديم الدعم للمدارس الخاصّة، ماذا لم يكن باستطاعة الدولة تقديم الدعم؟ هل تقولون لطالب فقير عليك أن تدفع القسط كاملاً أو أن تذهب إلى بيتك، هل هكذا علمنا السيد؟ عن اية محبة نتكلم هنا؟
لقد حدث هذا منذ سنة ونيّف في مدرسة مسيحية، حيث صعق الوالد بإنذار وجهه مدير المدرسة وهو كاهن إليه يخيّره بين أن يدفع القسط، أو أنّه مضطر إلى طرد ولده خارج المدرسة، كيف يسمح هذا الكاهن لنفسه الذي يحوّل بفعل الروح القدس الخبز والخمر إلى جسد المسيح ودمه في القداس الإلهيّ أن يخاطب والدًا مغبونًا بهذا الأسلوب، وحين ذهب الوالد إلى الأسقف لعرض قضيته رفض مقابلته. هل هذه هي المحبّة المسيحيّة المجانيّة؟؟!!
الصيام محطّة لنكتشف أنّ الله محبة، وأن المحبة تسري فينا، ويفترض أن نجسدها في حياتنا. الصيام لحظة نؤتاها ونتقبلها بفرح وتوبة، فتعزّز فينا قيم الشراكة والوحدة، وتزرع فينا الروح الإنجيليّة الصافية بينابيعها المتدفقة والرقراقة والعذبة وفي مسراها نكتشف أنّ الله شريكنا في المحبة ونزيل قلوبنا في التوبة والانعطاف إليه.
ألا أعطانا السيد أن نذوق بهاءه في هذا الصيام، لنبلغ إلى السجود أمام صليبه في الأسبوع العظيم المقدّس ونستحق قيامته المحيية المجيدة، فنكون من أبناء النور الساطع فينا إلى الأبد.
 جورج عبيد

  • شارك الخبر