hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

مجنون تلك الحارة

الثلاثاء ١٥ شباط ٢٠١٨ - 06:18

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

فوق يا بنيّ عند البيت القابع بلحف الجبل الذي ينطر القمة على مفارق الزمان، والذي تسقفه السماء بزرقتها والغيوم بكثافتها، والذي تلعب فيه الرياح وتسكنه الثلوج عاش رجل غريب مع حيواناته وقطعانه في بيت واحد. قيل ان لعنة ما لحقت به لأنه تجرأ مرة وضرب امه ضربا مبرحا، فكان ان أقفلت أبواب السماء، وكل القلوب بوجهه.

يقال بانه قبل أن يصبح حاله هكذا، هام على سطح البسيطة مفتشا عن ملذاته. فأنفق أمواله في السهر ولعب الميسر، الى ان صار يفترش الأرض قرب عين المياه يهلوس. اضحى يعاقر الخمرة وما عاد يصحو الا نادرا. فالصحوة بالنسبة اليه كانت آلاما واوجاعا مبرحة.
قيل بانه كان جميلا قبل ان يسقط في اللعنة. قيل بأنه كان فتيا ونضرا قبل ان يسقط. قيل بانّ نضارته كانت تفوح نعمة على وجهه. لكنّ الجمال زال عن وجهه. سمعت بانه أغرم بساحرة سحرته، فأفرغته من مضامين طبيعته وبهائه. هجّرته من بيته. فملأ الغضب نفسه، والجنون روحه، والطمع وجدانه، بعد ان صارت اللذة وجهته. راح يعيش ليومه ولنفسه. اضحت سعادته لذات، ووجوده لهو وسكر ومجون.
احرق حارته بسيكارته، فاستحال المنزل بعد رحيل امه الى ملعب للريح والظلال. اضحت حارته من خراب، وحياته من وهم، ومستقبله من موت. ضاع الماضي وما عاد يجد بوابة خلاصه. فتحوّل البيت الى زريبة تقاسمها مع الماعز والحيوانات. وفرغت خزائنه من الفلوس.
ما زلت اتذكر كيف كان يغني ويبكي ويتمرمر في مطارحه. كنا نسمعه من بعيد ونعدو مخافة ان تطالنا لعنة. ومن ثمّ نروح نختبأ كي نرصده من بعيد. كان يصرخ ويرتجف ويضحك ويبكي، وكنا نخاف ونهرب منه. كان يخاطب الماعز ويلاعبها حينا، ويقسو عليها أحيانا أخرى. كان يتصرف كأنه لويس الرابع عشر، وكأنهنّ سيدات البلاط. اعطى لكل عنزة اسما. وصار يغازلهنّ، وهنّ تهربن منه إذا ما اغتاظ. اقام عالما وهميا بهائميا من حوله كي لا ينفك يشعر بانه محبوب.
حياته كانت جحيمه يا ولدي. ووجوده دينونته. وكان يرى في الناس شياطين توافي كي تلتهمه.

عشية يوم عاصف في كانون قيل انّ حيواناته اوقعته. قيل انّ نوبة اصابته. سمع انينه وصراخه في وسط العاصفة مكاري كان عائدا من السوق عبر تلك الطريق المختصرة. فكان ان وافاه. فصار يصرخ أكثر اذ شاهد رجلا قادما.
ظنّ "أبو ليلى" انّ المكاري هو ملاك الموت الذي اتى كي يقبض على روحه، ويسرق منه ايامه. فصار يستغيث بأمه، ويتوسل من اعتقد بانه ملاك الموت ان يمنحه أياما كي يعيد تصويب مساره. كان يصرخ ويستغيث والماعز تفرّ الى ان دخل في غيبوبة.
فكان ان حمله ذلك المكاري على حماره الى أقرب طبيب كي يعالجه.
قيل ان لعنة ذلك الرجل انفكت في تلك الليلة. قيل بأنّ امه بانت عليه في رقاده. قال بانه شاهدها تقف قبالته امام الديان، تحامي عنه، وتسأل ربّ الحياة ان يمنح ولدها بضع أيام ام ساعات كي يتوب ويعود الى صوابه.
عرضت على الله ان تحمل عن ابنها نير جحيمه فيستريح هو. وبكت الام كثيرا في حضرة الحب. فأشرق الحب في عينيها حياة اعطتها لمن غرق في الموت. فكان ان زالت اللعنة. وبدأ الرجل يشعر بالمحبة التي راحت تذوّب كل اوهامه ومحبته ومخاوفه.
ولمّا تعافى زار القبر. سأل التراب مغفرة. بكى حتى زال عنه الجنون. عاد الجمال اليه قبل ان يعود هو اليه.
تلك هي قصة البيت الجميل القابع لوحده عند الجبل. تلك هي قصة البيت الذي خلع طربوشه تحية للخالق بوجل. الا فاخلع نعليك إذا ما أدركت ذاك المكان، فالأرواح تمكث هناك كي تتلو علينا قصص وعبر الأيام.
انتهت قصتي والنعاس حمل ابني الى عوالمه. حمله كي يعيده، وغدا يوم آخر وقصة أخرى اتلوها عليه كي يلتهمها فيكبر.

  • شارك الخبر