hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن عبّود

من قصص الحارات القرميدية

الثلاثاء ١٥ شباط ٢٠١٨ - 06:15

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

نظر الى الحارات القرميدية المتجاورة والتي تتسابق في نطاحة السماء، وسأل. تطلع الى جمالات العمارة والى الازقة المرصوفة والمتعرجة واندهش. قال لي: "انا على ثقة يا ابي بأنّ من بنى الاهرامات بناها. لا بدّ بأنّ كائنات اتت من فوق وصنعتها ثمّ مضت. فهي لا تشبه الكثيرين من قاطينيها اليوم ولا حضارتهم".

كان ابني مغرما بالاشكال الهندسية وبمصر القديمة وحضارتها التي يهوم حولها الكثير من الاساطير. كان الصبي مغرما بالمركبات والمخلوقات الفضائية والاشباح واللعنات والابطال، ككل ولد من عمره. فقد كان يسبح في عوالمه ويسقط من تلك العوالم اشياء وقصص على عالمنا وواقعنا المتصحر. ففهمه للكثير من الظواهر والاشياء كان من خلال الماورئيات.
استكنت قليلا، وابلغته بانّ وراء كل انجاز اسطورة. لكن اسطورة من نوع آخر يصنعها بشر قرروا ان يتحدّوا واقعهم. بشر لم يستسلموا للاقدار، فكان نتاجهم شيئ يشبه الاسطورة. انجازات سطورها اثرا معماريا يشهد لهم ولما ارادوا ان يكونوا عليه. ابلغته بأنّ لكل حارة وزقاق قصة يتناقلها الناس. ابلغته بأنّ على حوائط كل حارة نوافذا يسكنها ابطال، يطلون من الصور علينا كي يبلغونا قصصهم وتجاربهم، وذلك كي نصير مثلهم. لا تدوم على الحوائط الا صور من ارتسموا في القلوب قلبا. لا تدوم على الحوائط رسوم الا من صاروا الرسم والقصة. تفرغ الحارات من روحها اذا ما افرغت الجدران من النوافذ، وينقطع الخيط الرفيع ما بين الحاضر والماضي. فيصير الحاضر طفرة على سطح الايام يجرفه سيل العولمة. كما انه لا يجب ان تبقى الحارات مسمرة في الماضي، فتتجمد وتموت وتصير متحفية، ولا تعود طرقها ودروسها تحملك الى المستقبل يا ولدي.
تطلع بي وسأل عن الحارات والقصص والاسطورة.
فتطلعت الى الحارة التي كانت قبالتنا وابلغته قصتها.
فقلت:
"عاشت في قديم الأيام امرأة جميلة وقوية اسمها "سارة". قيل انها خسرت العديد من بنيها في المجاعة والطاعون. فعقدت العزم ان تكسر الفقر فلا يعود ينال من أولادها من بعد. قررت ان تركب الامواج الى العالم الجديد، حيث الذهب والغنى. قررت ان تمضي الى هناك، وتحضر منه الشيء اليسير. فلا يعودون يجوعون ويقيمون في الكهوف، بل في الحارات.
لم يكن قرار امرأة "مخول" سهلا البتة. فقد توّجعت كثيرا. وخافت كثيرا. لكنها نهاية قررت ان تتغلب على خوفها. قررت ان تتغلب على نفسها. لا بل قررت ان تضحي بنفسها كي يعيش هم بشكل أفضل. فالمحبة ليست مشاعرا بل اعمالا. المحبة ليست اهواء بل افعالا تجعل من تحب قبلك. المحبة هي ان تتغلب على خوفك، وتتحرر. وتصير قربانا يأكله محبوك. ومن لا يؤكل يتعفن ويرمى به الى الكلاب. اعتقدت بانّ ربها لن يحاسبها على ما قامت به وقالته فقط، بل على ما كان يتوجب بها القيام به وقوله. لم تكن واثقة بالكلية من جودة خطوتها. فما هي مزمعة القيام به كان مكلفا للغاية وغير مضمون. وهي لا ترغب بفراق من تحب. الا انّ الموت ايضا فراق، وقد فرّقتها المجاعة والفقر عن بعض اولادها. وهي ما عادت تحتمل فكرة خسارة المزيد منهم في حرب او مجاعة مقبلة، حتى لو كان الثمن خسارتها. فالأسوأ من الموت هو توقعه دون العمل لتحاشيه.
قبّلت امها والاحباء صبيحة يوم من ايلول. فبكت من انجبتها بكاء مرا، وأحضرت لها أغلى ما عندها. وأغلى ما عندها كان رسما لمريم. اعطتها اياه. واوصتها ان تحتفظ به. وسألت الكهلة ربّ القلوب ان يحنن القلوب القاسية على ابنتها. تمتمت لها كلمات بالفصحى حفظتها عن ظهر قلب من الكنيسة. وحسبها انّ الله يستمع أكثر لكل ما يقال بالفصحى.
غمرت "سارة" بنيها، شددتهم وابلغتهم بأنها ماضية في رحلة ابعد من بقليل من الامكنة التي سمعوا عنها. طلبت إليهم ان ينتظروا الفرج من ساعي البريد بعد أشهر على الاكثر. تزودت بكفايتها من التين المطبوخ والصعتر والزيتون. جمعت قروشا كانت ادخرتها من عملها بالإبرة. اضاءت شمعتها واستودعت نفسها في يد من تضاء الشموع له. ومضت.
قيل بانها ودّعت الزيتون والكرم. قيل بانها لوّحت للتينة مبلغة إياها بأنّ الصيف قريب.
وصلت بيروت. ركعت. وقبّلت الأرض التي منها خرجت، والتي لا تعلم إذا ما كانت اليها ستعود. سألت الأرض ان تكون رحومة على فلذة كبدها. وانطلقت في رحلة الى المجهول.
شاهدت البحر للمرة الاولى. سحرتها زرقته. وركبت سفينته التي اعتقدت بانها كانت لنوح، ومضت بانتظار ان ينتهي الطوفان. قرر البحر ان يلتهم الفلك مرارا. فاستنجدت برسم أمها. نهرته. وابلغته بانّ مهمتها لم تنته بعد.
فكان ان وصلت الى مرفأ المدينة العظيمة بعد مسيرة اسابيع. وصلتها مع السحر. فسمعت الهرج والمرج. عبرت مع قوافل المهاجرين الى ضفافها. لم يكن صعبا الحصول على فرصة عمل. والطلب على العمالة كان كبيرا. والثورة الصناعية مازالت في عهدها الذهبي. اقامت هناك قرب المرفأ في بروكلين.
قيل بانها بدأت العمل في فبركة خياطة لم تبعد كثيرا عن مكان اقامتها. قيل بانها زرعت الطريق الى مركز عملها حصا كي لا تضل الدرب، فتلتهما المدينة. عملت كثيرا. وبالأحرى قد قتلت الزمن بالعمل كي لا تقتلها الغربة، فتسقط في الفخاخ. فبدأت تنتج وتتقدم وتكبر.
صار ساعي البريد ساعي الخير الذي ينتظره أولادها ومحبيها. وابكت رسالتها الأولى كل البلدة. اعتقد أبناؤها بداية بأنّ أمريكا تقع في مطرح من مطارح السماء وبانّ ساعي البريد هو مبعوث جبريلي. فأحاطوه بكل مظاهر الحفاوة والتكريم. اعتقدوا بأنّ السماء والبحر يلتقيان في الأفق البعيد. فالأزرقان متوازيان ولا بد لهما ان يلتقيا في مكان ما بعيد في اميركا او غيرها.
عرق "سارة" هناك حفر مقلع الصخر هنا، فاستخرجت منه حجارة حارتها. حارة أرادتها ان تكون بحجم اسطورة سطرتها بكفاحها ونضالها وشجاعتها. وصار للحارة قرميد ينطح الأزرق ويناجي البعيد. صار للحارة نوافذ تحملك الى قمر، وقناطر يسكر عندها السهر. صار في الحارة غرف تلعب فيها أطياف امرأة قررت ان تبني حارة وتعود. فبنيت الحارة ولم تعد.
نعم يا ولدي انّ من بنى هذه الحارة هو من فوق، وقصته هي اسطورة. لكن ما عادت اساطير الاهرامات والحارات تتكرر كثيرا، لانّ المحبة هي أساس كل الخلق والصلابة والاساطير وقد بدأت تفتر في عالمنا".
وتطلع في حارة أخرى، وسألني عن قصة أخرى. وانا وعدته بان اتلو عليه كل قصص الحارات.
 

  • شارك الخبر