hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

سبع الغاب

الثلاثاء ١٥ شباط ٢٠١٨ - 06:37

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قال لي قصّ عليّ قصة من قصص اجدادك يا ابي قبل ان استسلم للنوم. قصّ عليّ من قصصك كي ادخل الى عوالم الأيام، واتغذى خيالا.

فكان ان تمتمت له قصة سبع الغاب:
"ابلغتني جدتي بانّ "سبع الغاب" الذي صار القصة، ولد في ثلوج شتاء الحرب الكونية العظمى في الجبال، والقمر كان في بداياته. وقد قيل بانّ من يولد مع القمر يكبر معه، ويصير الكوكب خير نديم له.
امه حواء كانت امرأة جميلة وقوية. رحل والده الى الامريكيتين ولم يعد. قيل بانه غرق في باخرة في دروبه الى العوالم الجديدة. قضى متجمدا في المحيط المتجمد. والصبي ما كان يومها الا نقطة في احشاء امه.
قيل انّ حواء وضعت ولدها بعيد عاصفة، في مغارة وسط الثلوج. قيل انها سترته بردائها ونفخت فيه من روحها. تذوّق الرضيع مع حليب امه، طعم العواصف والبرد والثلوج والموت والرغبة بالحياة. قيل انّ الثلوج دخلت الى نفسه حتى تآلف معها. واستقرت في نفسه الرياح. اتسع قلبه حتى امتدّ، وتشعّب كالجبال التي أحبها.
راحت جدتي يا بنيّ تسرّح شعرها الأبيض بمشطها الأسود في عتمة تلك الغرفة الجبلية. وراح الطفل الذي كنت يستمع اليها بتمعن، ويحدق الى شرارات الضوء المتولد جراء احتكاك المادة بالشعر المسدول على كتفها. كانت جدتي تتلو قصتها، والبرق والرعد يرقصان التانغو في الخارج، وانا ارقب كل ذلك".
حدّق بيّ ابني متلهفا لاستماع المزيد من قصة جدتي التي انتجتها الأرض لأهل الأرض. وانا تابعت قائلا:
"اردفت جدتي مبلغة اياي بانّ حواء ولدت ولدها، وهي عائدة من مشوارها الى بعلبك لابتياع ما لزمها من القمح بنصف "مجيدية". نصف "مجيدية" كانت ثمن "العودة" التي باعتها، كي تبتاع قمحا لخبز يبعد شبح المجاعة عن أولادها السبعة في تلك الأيام.
وسبع الغاب كان السابع والأخير ما بين اخواته، ولد مباشرة بعد اخته حاجة التي ارادتها ان تكون خاتمة البنات.
ولدته. وقد كتب له ان لا يولد. الا انه ولد. فقد كان مكتوبا ان يموت ذكور ذلك البيت قبل ان يولدوا. كان مكتوبا على ذلك البيت ان لا يتجدد، بسبب لعنة قديمة قيل انها لا تزول الا بفدية. وقد كانت هي الفدية.
ولدته امه، وقيل بأنها حملته مسافة مع القمح في وسط الثلوج. قيل بأنها ابحرت به في هياج البياض بحثا عن يابسة الى ان تعبت. فكان ان استقلت البرق ومضت. قيل انها تركت ابنها بعهدة الذئاب التي حملته الى جدته "فوتين"، التي سجدت لماّ شاهدته محمولا من تلك الوحوش.
كبر السبع الصغير وصار كبيرا، وابنا للجبال دعي. عشق سبع الثلوج التي قيل بأنه كان يزورها وتزوره مرات عديدة في السنة. وقد كان يسمع في وسط بياض الغابات يخاطب الوحوش ويتكلم مع امه. فهو كان كالحجال يهوى البياض والسكينة والبرد. قيل انّ العواصف كانت تهمس في اذنيه اسرارها، وهو كان يرددها انشودة في فم الوديان. عاش سبع الغاب على حافة عالمنا. عاش غريبا يكتنز في داخله اسرار الحياة وما بعدها يا صغيري".

وتابعت جدتي، التي استمرت في تمشيط شعرها الذي كان يخرج شرارات من نور، في وسط عتمة غرفة النوم قائلة:
" كان يتداوى ويداوي بالأعشاب التي كان يلتقطها من الارض. فابن الأرض لا تحييه الا نباتات الأرض.
كان يقرأ في الأوراق التي ينشرها منتصف كل أيلول سحر الفصول واخبار الشمس والعواصف. ويراقب النحل والنمل، ويرصد تأثير القمر على الشتول والشجر. قيل بانّ يده كانت خضراء على التربة السمراء. خربشت الأرض على جبينه ونحتت الشمس عينيه. وصارت ضحكته اطلالة. صار للأرض بركة. والناس تقدس التراب يا ولدي كما يقولون. تزوج فكان ان امتلأ منزله بنينا وبنات وبركات.
عاش، ولما شبع. قرر على عادته في كل سنة ان يصعد في الثلج الى الجبال كي يلتقي امه. قرر ان يصعد لكنه في هذه المرة، قبّل البيت وكل البيوت التي أحبها والعتبات. استغفر الاهل والناس. مضى على غفلة، وبلغ الموضع حيث ولدته امه. بكى هناك بكاء مرا. سمعته الذئاب فحزنت. سمعته الذئاب فرنمت. وقف حيث ما ولد. وقف فشاهد والده وكل الذين أحبهم. خرّ وصلّى عميقا وتنهد. وراح يرسم بيده في الهواء وجه رجل من الغابة استعادته الذئاب. قيل انّ الثلوج استعادته. قيل انّ امه اخذته".
قال لي: "من قال انّ الذئاب وحوش يا ابي؟ من قال بأنّ ليس لها إله؟ من قال بانها لا تحب البشر؟".
وبدأ الصبي يسأل عن سبع وأمه والذئاب والثلوج وجدتي والأرض. وانا كنت اجيبه واطعمه من تلك القصص.
استسلم ابني لإمارة الليل والاحلام، وقد صار في جعبته قصة عن طفل أتت به الذئاب، واسترجعته كهلا بعد طول مسير.
 

  • شارك الخبر