hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

القيمة والقيّم

الثلاثاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٨ - 06:19

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

وكان ان رافقني الى المتجر. ما لفته واحزنه هناك كان منظر العصافير الموضبة والمحفوظة في البراد. فسألني عنها، وعن ثمنها. فأجبته. تجمّدت عيناه في وجهه. وسمعته يهمس بتحسر: "هل هكذا يكافئ من يملأ الدنيا فرحا وانغام؟ اين الريش والهيئة؟ وهل هذه قيمتك يا عصفورا؟ هل هذا ثمن كل الفرح والاغنيات والحبور؟ كيف ثمنوك بأقل الاثمان؟".
فكان ان أبلغته بأنّ في عصر البشر تثمن العناصر على قدر حاجة البشر لها ولبعض وظائفها. تختزل ادوارها وتتحوّل الى مادة استهلاكية. اعلمته بانّ البشر لا ينظرون الا الى الفائدة المباشرة من العناصر، تلك التي ترتبط بحاجتهم. فيصير العصفور مثلا وجبة. قلت بأنّ الثمن ليس القيمة.
صمت، وعاد فسأل:" هل من اثمان للبشر؟ ومن يقدر اثمانهم؟".
استكنت. واجبته بأنّ لا.
وتابعت كلامي: "لكنّ البعض يرتضي بأنّ يكون سلعة يحدد ثمنها عرض وطلب سائر البشر. تسقط قيمة الإنسان الوجودية عندما تسقط فيه القيم يا ولدي. يسقط القيم فيصير ثمنه بالسوق قيمته".
واردفت قائلا: " انّ السوق واثمانه يا ولدي رهن بمن يبيع ويشتري. اما الوجود وقيمته فينبعان من كمال وجمال وجودة من اوجدهما. نعم لا يكتسب الانسان يا صغيري قيمة سوقية، الا اذا عرض نفسه في السوق. وقبل عرض من رغب ان يشتريه. فيصير عبدا لمن اراد عبادته.
الناس عادة لا تنظر الى بعضها البعض او الى سائر العناصر الا كبضاعة تلزمها لإتمام حاجة ما. فإياك يا ولدي ان تجعل من نفسك سلعة. اعلم بأنه مهما ارتفعت قيمتك السوقية، ستبقى زهيدة كثيرا. انّ خياراتنا في هذه الحياة تحدد مصائرنا.
عرفت رجلا كان ينتظر الانتخابات كي يتقاضى مبلغا، فيدلي بصوته لهذا المرشح او ذاك. والمبلغ مهما كبر يزهد، اذا ما تمّ مقارنته بحجم الوكالة التي اعطاها. كيف لا وانت وقد ائتمنته على حاضره كي يبني له عليه عمارة للمستقبل. ثمة اشياء لا تباع وتشترى في هذه الدنيا.
لا يعرض كلّ الناس انفسهم في السوق. الا انّ بعضهم مازال محتجزا في سجن الرتابة والخوف والتقليد والموروثات. نعم انّ بعضهم لا يريد ان يدخل المحاسبة الى قاموسه. ولا ان يحلم بالحرية مخافة ان يضيّعها. فهو يعتقد بأنّ الايمان بالشخص والموروثات يحرر.
عرفت شخصا كان يؤمن بانّ الانتخابات فولكلور، لا بل هي تجديد للبيعة. والبيعة بحسبه تحصل مرة في العمر، وتمرر للأولاد، ومن ينكس بها خائن. وهكذا تبقى مجتمعاتنا عالقة في الماضي والخوف من التغيير".
اما انا فأقول لك: "لا تقم لك الها من طين يستعبدك".
وتابعت:
"غدا ترى الناس تسير في الازقة اسرابا في هياج.
غدا تضرب الطبول، فتصطف غالبية الناس طوابيرا بحسب انتمائها العائلي والقبلي والطائفي، وتشهر الحرب.
غدا تضرب حماوة الانتخابات برودة العقول، ويتوجه غالبية الناس رفوفا الى مراكز الانتخابات. فيصوتون بأقدامهم وليس بقناعاتهم. يصوتون بمخاوفهم وليس بقناعاتهم. يصوتون، وما بعد يوم غد يوم آخر، يشبه الامس، ولا يشبه الغد.
مساكين البشر فهم يهربون من واقعهم الى مصيرهم ، ويعتقدون بانهم يتحررون.
غدا ترى كل من عرض نفسه فصار سلعة يمشي وراء من اشتراه، كي يضع في الصندوقة صكّ عبودية. وتراه يصرخ في اليوم الذي يليه مستغيثا، فلا يجد من يسمعه، فالسوق موسمي، واثمان الارتهان قد سددت سلفا.
مسكين ابن البشر اذا ما ظنّ انّ الاتكال على البشر. مسكين من يؤمن بالبشر، وانظمتهم التي تلغي الغد من اجل اليوم. وتجعل الربحية المباشرة على حساب الوجود، كل الوجود هدفا.
مساكين، لانّ ساستهم يبيعونهم آمالا، يشترونها اوهاما. وهم في كل مرة ينتقلون من وهم الى آخر.
لا يعلمون انّ الغد يبدأ عندما تقرر ان تصير جديدا، وتخلع عتقك، فيطلع عليك الصباح. نادرة هي الومضات على وجودها في دنيانا".
استمع اليّ بكل اهتمام. ورفع سيفه المطاطي عاليا، الذي قال بأنه سيكون للزود عن الحياة والقيم، كي لا نصير كالعصافير المغدورة والمعروضة للبيع في المتجر.
 

  • شارك الخبر