hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

المطران الياس عودة صوت المسيحيّة المشرقية في الأزهر الشريف

الخميس ١٥ كانون الثاني ٢٠١٨ - 06:14

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تستحقّ كلمة متروبوليت بيروت وتوابعها المطران الياس عودة عن القدس في الأزهر الشريف، التأمّل بها، والغرف من ينابيعها. إنها كلمة مقدسيّة بامتياز أطلّ من خلالها المطران الياس ملامسًا جرحًا كونيًّا لا يخصّ المقدسيين ولا المشرقيين ولا العرب، بل يخصّ الإنسانية كلّها. فيها حلت أبديّة الله، ورسخت أزليته، فجعلها بسبب من ذلك مدينة الأمم ورسالته إلى الشعوب.

علا صوت المطران الياس حرًّا محفّزًا المؤمنين بالله إلى فهم دقيق "بأنّ غياب العدالة يخنق صوت الحقّ، وعدالة السماء مهما سمت ناقصة، لكنّ الباطلّ مآله الزوال، ولا بدّ للحقيقة أن تسطع وللمقهور أن ينتصر"، ونفهم خلف آفاق الكلام، بأنّ غياب العدالة تمزيق لله الكليّ القدرة، والحروب التي شنّت على مشرقنا، وانتهى صانعوها إلى صفقة تهويد مدينة السلام، تشاء تمزيق الله في قلب التاريخ البشريّ. حاولوا تمزيقه في لبنان وسوريا والعراق، والآن يمزّقونه في مدينته المقدسة، بجعلها عاصمة إسرائيل الأبديّة، فنحن، وكما قال صاحب السيادة: "لا ننظر إلى القدس كمكان وحسب، بل كجوهر يحمل معنى روحيًّا يتجاوز تقلّبات التاريخ والسياسة وما جرّته من عداوات وحروب"، الجوهر الذي قصده المطران الياس، يمثّل خواص الله وضياءه المديد، القدس بيته، ومتى كنّا إليها وذقنا بهاءها، رنونا إلى الله، فالحجّ إليها إلى الرب عينه، كينونة القدس من أزلية الله، وديمومتها مدينة للسلام ديمومة الله بأبديته في التاريخ، وكما أشار سيدنا الياس: "القدسُ بالنسبة لنا هي المدينةُ المقدّسةُ التي شهدتْ مراحلَ الصلبِ والموتِ والقيامة، وستبقى المكانَ الذي فيه يُرفع التمجيدُ لله العلي إلى أبد الدهور".
لامس سيادته بحبّ هذا الجرح بكلمته، يضمّد الحبّ الجراح، ويسكب عليها زيتًا وخمرًا. فرادة كلمته، أنّها أضاءت بنفحات الروح ونجاواه على قضيّة عبثت بها غطرسة أميركيّة صهيونيّة، وحرفتها عن هدفها، وجوّفتها من مضمونها. إسرائيل لا تشاء سلامًا ولا تعمل له، لا تعترف بوجود فلسطين، ولا تظهر القدس عاصمة الأمم. إنّها الدولة اتي حبل بها بالإثم وولدت بالخطيئة كما قال المطران جورج خضر. إنّها الدولة المنافية للأخلاق والمجافية للقيم والمنافقة على الدول، والموطّدة للحروب، والمصدّرة للإثم. إنها الدولة التي تريدها أميركا ترامب ظافرة وسيدة ومهيمنة فيما هي أمّة مجرمة وقاتلة. كيف يتلاقى المجرمون والمصلّون في حاراتها القديمة؟ من يرفع الإجرام عنها؟ مسيحيتنا ناقصة وشهادتنا لها فارغة إذا لم نأت منها ولم نولد من رحمها. إنهم يصلبون المعلم مرّة جديدة، وإسرائيل الغاشمة تكرهنا لأننا نذكرها بأنها صلبت المسيح وحاولت القضاء عليه، وتكره الإسلام القرآنيّ لأنّه سمح ومنفتح ومديد بالحوار مع كلّ آخر. إسرائيل تكره الله-المحبة في القدس وبيت لحم والناصرة ويافا وحيفا، تكره الله-المحبة في سوريا ولبنان والعراق... تكره اللقاء المسيحيّ-الإسلاميّ الراسخ في الحبّ والوداد، كما قال محيي الدين بن عربيّ:
"أدين بدين الحب أنّى اتجهت ركائبه فالحبّ ديني وإيماني"
كشف المطران الياس هذا البعد في كلمته لمّا قال: "إننا كمسيحيين مشرقيين نلتمسُ الرضى الإلهي، وننشدُ وجهَ الله حيثما كنّا، وخاصة في القدس وفي وجوه إخوتنا أبنائها، ونسعى إلى إحقاقِ الحق، وابتغاءِ العدالة، والعملِ على إعلاء شأن الإنسان، والحفاظ على حريته وكرامته". الرضى الإلهي يتنزّل في السلام وابتغائه. لا يسمو السلام ويعلو بقرارات آحادية جائرة وفاقعة تنافي السعي للحلّ. لقد أبطل دونالد ترامب مساعي السلام، وقاد وذبح فلسطين وذبح معها مضمون السلام. حسنًا فعل المطران الياس بإشارته إلى القدس ولبنان، وذكّرنا بإشارته إلى قول للمثلّث الرحمات البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم: "لبنان والقدس معراجنا إلى السماء"، إسرائيل في حضورها تكره لبنان لأنّه الأنموذج الفريد للقاء بين المسيحيين والمسلمين. "القدس كلبنان مكان لقاء الإخوة، مسيحيين ومسلمين، ومكان تفاعل الأفكار والثقافات والأديان. القدس تخصّ المسيحيين بقدر ما تخصّ المسلمين، والاهتمام بمصيرها مشترك". لقد حاولت إسرائيل ضرب اللبنانيين بالفلسطينيين، حاولت تمزيق لبنان، بعدما قضت على فلسطين، وأحلام الفلسطينيين بالعودة، وكلّ ذلك لأنّ الأنموذج اللبنانيّ الفريد من نوعه لصيق بالأنموذج المقدسيّ، والأنموذجان متناقضان مع الأنموذج الإسرائيليّ الآحاديّ. والدليل على ذلك، أنها الأنموذج الإسرائيليّ صهر القدس بأنموذج آحاديّ، وجعلها عاصمة إسرائيل إلى الأبد. وحده هذا القرار يناقض فرادة لبنان والقدس بتنوعهما البهيّ.
أكّد المطران الياس على التوق المشترك الجامع بين المسيحيين والمسلمين لاستعادة القدس. والتوق راق وحميد ورائع. لكن يوجع المطران الياس عودة والمؤمنين بالله الواحد، أن يواجه العرب قرارًا كهذا بانقسام بليغ، بحروب مذهبيّة أو حروب قوميّة. يوجع المسيحيين المشارقة أن يخسروا القدس وفلسطين. وفي نهاية المطاف، كلّ الحروب الدائرة في محيط فلسطين تقود إلى خسارة فلسطين إلى الأبد.
"إنّ الوجه الحقيقي لشرقنا الأوسط، ولقدسنا بخاصة، لا يتجلّى في أصالته إن لم يرتفعْ فيه صوتان معاً: صوتٌ مسيحيٌ وصوتٌ إسلامي، يشكّلان توأماً مشرقياً يطالبُ بحق الفلسطينيين بأرضهم وحق المسيحيين والمسلمين بمقدّساتهم.
مشرقُـــنا لن يسلمَ في جوهره إن لم تَــسْــلَــمْ هذه النواة، والقدسُ تفقدُ معناها إذا فقدتْ أيَّ عنصرٍ من عناصرها الروحية.
فلنرفض معاً أن تكون القدسُ ألعوبةً سياسيةً أو منطلَــقاً لمآرب تغلب فيها المصلحةُ على الحقيقة والإستقامة والعدالة. ولا نَــدَعَــنّ جدّيةَ من يودُ سلبَــنا القدسَ تكون أقوى من جدّية إرادتِــنا في استعادتِـها".
سيدي، لقد كان صوتك لبنانيًّا ومشرقيًّا وفلسطينيًّا. لقد غسلت بكلامك وجعنا، وأظهرت مع صاحب الغبطة البطريرك يوحنّا العاشر، بأننا أصحاب القدس، ولا تستقيم مسيحيتنا من دون القدس. وعلى الرغم من ظلم الإسرائيليين وجور الأميركيين "القدس لنا والبيت لنا، فلسطين لنا، ويتبقى عيوننا تشخص ترنو إليها كل يوم وتزورها وتتكحّل بترابها، قيستحيل التراب ضياء. سيدنا الياس لقد حجينا بكلمتك إلى البيت وإلى ربه، ومنه ارتفعنا بالصليب والقيامة والصعود إلى السماء.



 

  • شارك الخبر