hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

الضيعة

الثلاثاء ١٥ كانون الثاني ٢٠١٨ - 06:12

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قال:" الا فقصّ عليّ يا والدي قصة الضيعة". 

وتابع سائلا: "ما هي الضيعة وكيف نشأت، من صنعها، ولماذا هي الاجمل في عينيك يا ابي؟".
الضيعة قصة زواج اجدادنا من الارض بعد ان ملوا الكهوف والتجوال. الضيعة كتاب سطره من قرأ الارض وفلحها واودعها بذوره ودموعه وصلواته وآماله، فأنتجت له ثمارا وقصصا واثرا معماريا. وما الحضارة الانسانية الا نتاج زواج الانسانية من التراب. فكانت الضيعة والارض، ومن ثم المدنية بنسختها الحضارية، يا ولدي.
خرج اجدادي من كهوفهم ومن هيامهم، واستقروا عند النبعة حيث الارض. علمتهم الصبر والتسليم. معها اكتشفوا جمالات العيش وطعم الشمس ثمارا ونتاج الاخر تعاونا وشراكة وعصير خمرة فرحوا به. صنعوا منازلهم من الطين والحجر والشجر. طينا من طين الارض كي يستقر به الطين الملتهب نعمة وروحا. وصار اهلي يسطرون قصص الارض للأهل الارض. فصاروا وجوهها وعطرها وشخصياتها. فسطروا على صفحاتها قصصهم وآمالهم وحكاياتهم وخيباتهم. احتسى التراب من عرقهم ودمعهم نبيذا حلّا الوجود.
ما عاد المسرح يشبه الناس كثيرا. والناس تعود من حيث اتت من الكهوف، اذا ما اهملت الارض. فتتحوّل الضيع الى منتديات والدول الى نوادي والبشر الى رواد، لا بل الى وحوش حضرية.
كانت لنا ضيعة من نور، لمّا كان للناس في محلتنا قلوب. لا بل كان الناس قلوبا تتحرك.
كانت ضيعتنا يغمرها النور و"مشرورة" ما بين قمم المحبة. كانوا وكانت الضيعة، وكانت البساطة وكانت كل الوجوه التي عرفتها والتي سمعت عنها واحببتها.
كان العالم جميلا والضيعة وردية، وكانت الحقول معطاء، وكان الناس ابناء الارض، والارض امهم. الزمان كان زمن قلة، لكن زمن بركة ايضا.
كان اهلي يعتقدون بانّ الله يشرق عليك بوجه. ويوبخك بوجه. ويقرع على بابك بيد غريب ومشرد. فيشاطرك طعامك وفراشك. كانوا يبتسمون عند اللقاء. كانوا ينظرون في وجوه بعضهم البعض، فتشرق الوجوه فرحا. ويتبادلون القليل الذي يملكون والنظرات والنكات والمحبة وكل الميجنا والعتابا والاغنيات. كانت هذه ضيعتنا.
عرفت اناسا حملوا ضيعتهم عطرا ونثروه حيث ما حلوا. ضيعتنا التي احب ضيافة ولقيا ووردة وكلمة حلوة وابتسامة. ومفتاح ضيعتي كلمة حلوة، ووجوه منها يطلع الجمال الى كل العالم.
لا ليست الضيعة حجارا وازقة وعتبات ومنازلا فقط. ولا يجب ان يتصدر المسرح، الادوار والقصة والشخصيات. فجميعها يتكامل.
ضيعتي سلة عنب جدي وتفاحه وزيتونه ودكانه وكل البساطة والفرح والامسيات.
كم اتوق ان التقي كل الوجوه الباسمة التي أحببت في زمن طفولتي ولم تستطع أو اتمكن او اعرف كيف تودعها. كم اتوق ان التقي ضيعتي التي ارتسمت في مخيلتي مدينة من فوق، وانا اتمرمر ممن هم تحت. كم اشتقت ان التقي بأناس تحييك ببساطة، تعلن محبتها لك جهارا، تعاتبك احيانا، تقبلك وتدعوك الى زيارتها لتناول الكبة معها. اشتقت ان التقي اناسا تطعمك محبة، اناس تعرف بانّ الإنسان يقتات محبة قبل كل شيء".
ثمّ ابلغته امرا احببت ان يبقيه سرا، فقلت:
" يا بنيّ ما عدت أحبّ أن أوافي إلى الضيعة كثيرا. لأني ابكي في كل مرة اوافي فيها وأطوف في الأحياء. أفتش ببساطة عن وجوه أحببتها وقد صارت في الضفة الأخرى. ابحث في الامكنة عن ضيعتي التي غابت بفعل الأزمنة، فلا أجدها إلا ومضات. ابحث عن قلوب، أبحث عن محبة وبساطة، فلا اجدها الا في حفنة بشر صارت قلوبا. ربي لا تحرمني لقيا وجهك، ربي لا تحرمني اناسا من طينة الاخيار والطيبين".
تراني اليوم يا بنيّ اقول لك: "أحبب يا ولدي من كل قلبك وافعل ما تشاء. وأنا على ثقة بانّ رب المحبة يعرف محبتك. وسيمحو كل هفواتك ويدخلك الى عالم القلوب حيث وجوه اجدادك وحيث الضيعة من نور".
واستكان قليلا قبل ان يطلب اليّ ان نبني ضيعتنا سوية في تراب الحديقة، وان نرسم فيها كل الوجوه التي نحب والتي تجعل منها ضيعة القلوب والقصص التي احبها والتي اتوق اليها دوما.
 

  • شارك الخبر