hit counter script
شريط الأحداث

مجتمع مدني وثقافة

المطران عودة: ليبث الحاكم الفضيلة في المجتمع وتكون سياسته مستقيمة وعادلة

الإثنين ١٥ كانون الثاني ٢٠١٨ - 14:29

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الارثوذكس المطران الياس عودة، خدمة القداس الإلهي في كاتدرائية القديس جاورجيوس، لمناسبة ذكرى ختانة ربنا يسوع المسيح بالجسد وتذكار أبينا الجليل في القديسين باسيليوس الكبير ورأس السنة، في حضور حشد من المؤمنين.

بعد قراءة الإنجيل المقدس ألقى عودة عظة قال فيها: "إن بدء السنة الكنسية هو الأول من أيلول. في هذا اليوم تحتفل الكنيسة بذكرى دخول الرب يسوع إلى مجمع اليهود حيث دفع إليه سفر إشعيا كما يقول الإنجيلي لوقا فقرأ "إن روح الرب علي ولأجل ذلك مسحني وأرسلني لأبشر المساكين وأشفي منكسري القلوب وأنادي للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر وأطلق المهشمين إلى الخلاص وأكرز بسنة الرب المقبولة".

أضاف: "في هذه الذكرى تدخلنا الكنيسة في الزمن الجديد زمن الملكوت سنة الرب المقبولة، لذلك نرفع الدعاء إلى الله شاكرينه على كل ما أعطانا ومجددين العهد على الوفاء لتعاليمه والشهادة له نحن الذين عند المعمودية لبسنا المسيح واتحدنا به.
لكن العالم يحتفل اليوم أي في الأول من كانون الثاني ببدء السنة التي نسأل الله أن يجعلها مباركة وحاملة الخير والسلام.
أما الكنيسة فتعيد اليوم لذكرى ختانة الرب يسوع. بالأمس القريب رأينا عمانوئيل طفلا في المذود ملفوفا بالأقمطة كأي طفل واليوم نراه مطيعا للناموس يخضع للختان الذي كان واجبا على كل ذكر يهودي لتأكيد العهد مع الله. لكن خضوع الطفل الإلهي للناموس لم يكن كخضوع أي طفل بل لكي يعتقنا من لعنة الناموس ويجعلنا أبناء للنعمة.
يقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل رومية "لأنه كما بمعصية الإنسان الواحد (آدم) جعل الكثيرون خطأة هكذا بإطاعة الواحد (يسوع) سيجعل الكثيرين أبرارا" (رو5 19).
الله الآب بسبب محبته اللامحدودة لم يشأ أن يترك خليقته العاقة في ظلام الخطيئة فأرسل ابنه الوحيد ليخلصها. آدم أخطأ وعكس خطيئته على ذريته فجاء المسيح لكي يعتقنا من نير الخطيئة ويخلصنا. فلم يعد للختان ضرورة. الختان المطلوب الآن هو ختان القلب من كل شر وخطيئة وإثم".

وأردف عودة: "الكنيسة تعيد اليوم أيضا للقديس باسيليوس الكبير رئيس أساقفة قيصرية الكبادوك الذي ولد في أواخر العام 329 في عائلة خرج منها قديسون ومعترفون وشهداء. فجده لأمه كان شهيدا للمسيح وجداه لأبيه كانا معترفين. جدته مكرينا التي اعتنت بتربيته كانت قديسة تتلمذت على يد القديس غريغوريوس الصانع العجائب. أبوه وأمه كانا تقيين ورعين أنجبا خمسة ذكور وخمس إناث وقد أصبح خمسة من أبنائهما قديسين بينهم قديسنا باسيليوس وأخته مكرينا التي خشيت على أخيها باسيليوس الذي تتلمذ على كبار معلمي عصره وأتقن التاريخ والهندسة وعلم الفلك والمنطق والبلاغة والبيان والشعر والفلسفة وغيرها من علوم زمانه، فاتهمته بالإدعاء والغرور والإستكبار. أثر كلامها في نفسه وغير مسيرة حياته خاصة بعد وفاة أخيه نكراتيوس الفجائية. أدرك باسيليوس أن كل الأشياء فانية ما عدا وجه الله فقال "بعد أن أمضيت زمنا طويلا في الأباطيل وصرفت عهد شبابي في الكد والجد في تحصيل العلوم وبلوغ حكمة تنكرها الحكمة الإلهية صحوت يوما كما يصحو النائم من رقاد عميق ولمحت النور الباهر المشرق من تعليم الإنجيل".

وتابع: "زار المراكز البارزة للحياة الرهبانية في العالم المسيحي، ثم قرر النسك والعزلة وانصرف إلى الصوم والصلاة وقراءة الكتاب المقدس وكتب الآباء والتأمل. بعد ذلك اهتم بالرهبنة المشتركة ووضع لها القواعد وأنشأ المناسك. ثم تدرج في الرتب الكهنوتية إلى أن اختير رئيس أساقفة حوالى سنة 370 لقداسته رغم اعتلال صحته.
نذر باسيليوس حياته لعمل الرحمة وعندما حطت المجاعة في قيصرية باع الأملاك التي تركها له والده لإطعام المحتاجين وألقى المواعظ التي حركت القلوب ففتح الكثيرون مخازنهم للمساعدة.
وكما واجه المجاعة بشدة هكذا واجه بدعة آريوس حتى إنه تحدى الإمبراطور والنسالآريوسي وقال لموفده مودستس "إمبراطوري أنا يمنعني من اتباع أوامر إمبراطورك. لا أستطيع أن أعبد خليقة وأنا خليقة الله ومدعو إلى الإشتراك في حياته، أنت حاكم وأحد البارزين لكنني لا أكرمك أكثر مما أكرم الله". وعندما هدده بمصادرة ممتلكاته ونفيه، أجاب "لا يمكنك أن تصادر مقتنياتي لأني لا أملك شيئا. إلا إذا كنت تريد ثوبي العتيق هذا أو الكتب القليلة في مكتبتي. أما النفي فماذا يضيرني حيثما حللت في أرض الله هناك يكون منزلي. لا يمكنك أن تنفيني من نعمة الله. والتعذيب لا ينال مني لأنه ليس لي بعد جسد يحتمل التعذيب. ضربة واحدة ويأتيني الموت. أما الموت فمرحب به لأنه يأتي بي سريعا إلى حضرة الله المباركة". قال مودستس " لم يجسر أحد قبل اليوم على مخاطبتي بهذه اللهجة". أجابه باسيليوس الكبير " ربما لأنك لم تلتق أسقفا قط وإلا لكان كلمك بالطريقة التي كلمتك بها. نحن الأساقفة قوم ودعاء مسالمون لأن شريعتنا تأمرنا بذلك. ونحن كذلك لا مع الرؤساء وحسب بل مع كل الناس بلا استثناء. ولكننا في سبيل الله لا نحسب حسابا لشيء لا للتعذيب ولا للموت. فالتعذيب يقوي عزيمتنا. أهنا، هددنا وإفعل ما يحلو لك، مارس سلطانك علينا ولكن ليسمع الإمبراطور كلامي جيدا. لن تقنعنا أبدا بالإنضمام إلى قوى الإثم مهما بلغ تهديدك لنا".
هكذا شهد باسيليوس للمسيح وتمسك بإيمانه رغم التهديدات العديدة التي توعده بها مبعوثو الإمبراطور. وكان مستعدا للموت من أجل المسيح".

أضاف: "الصفحات المضيئة في تاريخ المسيحية كتبت بدماء الشهداء. فالكنيسة هي كنيسة الرسل والشهداء الذين سقطوا الواحد تلو الآخر دفاعا عن إيمانهم بالمصلوب الذي مات وقام من أجل خلاص العالم. آلاف الشهداء بل ملايين سقطوا في كل العصور بدءا بالعهد الروماني. يقول يوسيبيوس في تاريخه "أذاقوا الموت في نفس اليوم لعشرة عشرين ثلاثين ستين وحتى مئة مسيحي في آن". ولم تكن النساء بعيدات عن الإستشهاد لأن عدد الشهيدات يكاد يوازي عدد الشهداء.
الشهيد هو شاهد. المسيح الرب كان أول من شهد للآب وتوج شهادته على الصليب. وقد أعطى لرسله أن يشهدوا باسمه أمام العالم أجمع. المعترفون الكثر الذين تكرمهم الكنيسة هم المسيحيون الذين أعلنوا إيمانهم بالمسيح القائم من بين الأموات زمن الإضطهادات ولم يتراجعوا عن إيمانهم رغم تهديدات الأباطرة والعذابات الموعودة ودفعوا حياتهم بفرح ثمنا لإيمانهم. الإيمان أقوى من الموت. هل ننسى ما قاله إغناطيوس الإنطاكي "إني أموت بمحض اختياري من أجل المسيح، أنا قمح الله أطحن تحت أضراس الوحوش لأخبز خبزا نقيا للمسيح".

وقال عودة: "مهمة الكنيسة أن تشهد لمسيحها. هذا يعني أن من واجب كل مسيحي أن يشهد للمسيح للحق حتى الدم ليس كرها بالحياة بل محبة لله.
في هذا اليوم المبارك أسألكم أن تتأملوا في سير القديسين ومن استشهدوا بفرح من أجل إيمانهم جاعلينهم نصب أعينكم أمثلة وقدوة لحياة تتدرجون فيها صعودا بالجهاد والفضائل إلى أن تصلوا إلى قياس ملء المسيح.
لقد طوينا سنة مرت بمحاسنها ومساوئها وصعوباتها وها نحن نستقبل سنة نصلي إلى الرب كي تكون مباركة ومقدسة بوجوده الدائم فيها وحافلة بالخير والسلام وبالإنجازات التي تنعكس إيجابا على حياة الإنسان وتنميها.
أملنا أن تكون بداية العام مناسبة للتأمل بما مضى والرجاء بما سيأتي. أملنا أن يتجه كل منا إلى قلبه وأن يتفحص بتأن ما يعتمر في داخله ويتوب عن كل خطيئة أو شر أو معصية ارتكبها ويعود إلى ربه متعهدا سلوك طريق الخير والبر والصلاح بمعزل عما يقوله أو يفعله الآخر. فإن أصلح كل منا نفسه وقوم اعوجاجها وملأ قلبه محبة وإيجابية وفرحا وألقى همومه على ربه سوف يحيا بسلام وطمأنينة.
لكن عالمنا ينسلخ شيئا فشيئا عن الإيمان ويتجه إما نحو التعصب الأعمى البعيد عن كنه الإيمان المرادف للمحبة والتسامح والعطاء أو نحو اللامبالاة والمادية والمصلحة".

وأضاف: "حياة الإنسان فارغة ما لم يملأ الله قلبه. والعالم فارغ ما لم يملأ بشر مؤمنون يشكلون الخميرة الصالحة ويعيدون الإنسانية إلى العالم وإلى الحياة.
ما معنى الحياة إن لم يعش الإنسان بسلام مع نفسه ومع أخيه الإنسان ومع ما يحيط به من طبيعة وكائنات للأسف تنوعت في زمننا أشكال العنف وتعددت. لم يعد العنف بالقتل أو التفجير أو التدمير أو الإبادة وحسب بل تعداها إلى العنف اللفظي أو المعنوي الذي وإن لم يقتل الجسد إلا أنه يسيء إلى نفس الإنسان وإلى كيانه ووجوده وكرامته وإنسانيته. فما نشهده على الطرقات من مشادات على أفضلية المرور تنتهي أحيانا بالطعن أو القتل وما نشهده في وسائل التواصل الإجتماعي ووسائل الإعلام والرسائل الصوتية أو المكتوبة ينذر بكارثة إنسانية. لم يعد للانسان قيمة. بل لم يعد قيم ومبادئ وأخلاق. الكل متفلت من كل شيء. الإنسان يدمر الآخر ونفسه لأن الأخلاق بادت والإيمان تقلص. وما زاد الأمر سوءا هيمنة الآلة على كل المجالات. كما أن التكنولوجيا الحديثة أدت دورا سيئا وسلبيا في تداول المعلومات الخاطئة أحيانا أو الكاذبة التي تجافي الحقيقة وتسمم أفكار الناس وتضللهم".

وسأل: "ألم نلاحظ جميعنا كم تزدحم مواقع التواصل الإجتماعي بشائعات تهدف إلى صرف انتباه الناس عن الواقع أو الحقيقة وتوجيههم إلى ما يراد له أن يكون واقعا أو حقيقة الأخبار الزائفة تنتشر بسرعة وسهولة لأنها أكثر إثارة من الأخبار العادية لكنها تنتهك حرية البشر وكرامتهم وتؤذي سمعتهم. أين الإنسانية والمحبة واحترام الآخر في ظل التطور التكنولوجي؟ كيف تنتصر الحقيقة على الكذب والتضليل وتعود القيم والصدقية والموضوعية والتحليل العلمي والمنطق وكيف يعود وجه الآخر هو محط النظر لا الهاتف أو الآلة وكيف يعود الحوار مع الآخر الذي هو صورة الله؟".

وأردف: "في بداية هذا العام نرفع الدعاء إلى الإله الذي صار إنسانا لكي يشترينا بدمه ويعتقنا من نير الخطيئة أن يهدي الإنسان وينير عقله وقلبه ليعود إلى إنسانيته ويعي أن الله الذي خلقه منحه كل النعم ليعيش بسلام ووئام ومحبة مع أخيه الإنسان ومع ما يحيط به. رجاؤنا أن يعود الوعي الذي يؤدي إلى التغيير وأن يتم تفعيل دور العقل وتهذيب الخلق وحفظ النظام وتطبيق القانون واحترام البيئة وإعلاء شأن العمل والجهد والثقافة والعلم وكل ما يؤدي إلى التقدم.
كل من لا يتقدم يتخلف. والتقدم هو نتيجة الجهد الشخصي والمثابرة والإيمان بالله أولا ثم بما منحنا إياه الله من عقل وذكاء وبصيرة وحسن تمييز. لذلك علينا جميعا تنقية القلب والإعتماد على العقل في حياتنا واحترام المبادئ المرتكزة على القيم والأخلاق والفضائل. الحياة البعيدة عن الفضائل فارغة وتافهة كما أن السياسة البعيدة عن الفضائل ليست سياسة فاضلة وبناءة. لذلك من الضروري أن يتحلى الجميع بالفضيلة وبشكل خاص الحاكم ليبث الفضيلة في المجتمع وتكون سياسته مستقيمة وعادلة".

وختم عودة: "لقد أعطي لنا الزمن للتوبة ولعيش الفضيلة بانتظار لقاء وجه الرب. ألا كانت السنة القادمة علينا بخير، سنة توبة ورجوع عن كل ما يسيء إلينا وإلى إخوتنا، سنة كفاح من أجل الوصول إلى الأفضل، سنة مصالحة مع الذات ومع الغير، سنة قيامة لنا ولوطننا لبنان من كل كبوة.
أعاد الله عليكم هذا العيد المبارك بالصحة والخير والقداسة وعلى وطننا المحبوب لبنان بالسلام والإستقرار والإزدهار".
 

  • شارك الخبر