hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - انطوان العويط

عن التسوية التاريخيّة المطلوبة في حياد لبنان (3)

السبت ١٥ كانون الأول ٢٠١٧ - 06:38

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الجمهورية

لقد أظهرت لنا التجارب المؤلمة أنّه كلّما استعادت الجماعات اللبنانيّة طبائعها في العيش معاً الشبيهة بكينونة البيت المعقود، استعاد البنيان قوامَه وعافيتَه وقدرتَه على مقاومة الرزايا والأخطار وتقلّبات الأزمنة والسياسة، وذلك على قاعدة المصلحة الوطنيّة الجامعة وبعيداً من المحاور الإقليميّة والدوليّة.
عشيّة الاستقلال، لم تعتبر هذه الجماعات الصيغة والميثاق مجرّد تسويات، أو تفاهمات عابرة، كما لم يقبلوا بها آنذاك ليراجعوا في شأنها لاحقاً، أو ليتمّ التراجع عنها في أوقات تضارب المصالح والخيارات. لمّا حصل ذلك فيما بعد وتعدّدت التسويات الظرفيّة، فبسبب انحرافٍ عن وانقلابٍ على، لبنان الفكرة ولبنان المعنى ولبنان الجوهر، وبدفع من عوامل إقليميّة ضربت لبّ التجربة اللبنانيّة، وهي المشروع الحضاريّ للبنان الذي أرسيَ على مداميك ثلاثة: الحرّية، والمساواة في المشاركة، وحفظ التعدّدية، وهي ثوابت في أساس تكوين الدولة اللبنانيّة.

لقد شكّل لبنان على الدوام قيمةً حضاريّةً ثمينةً وإرثاً للبشريّة جمعاء. هو مهد ثقافة عريقة منذ انطلاقة الحرف من جبيل - بيبلوس مذكّرة ببدايات الكتابة.

موقعه على الحوض الشرقيّ للبحر الأبيض المتوسّط، مكّنه من أن يكون المرفأ لرحلة إحدى أهمّ حضاراته حول العالم، وليكون جسراً بين الشرق والغرب على المستوى الثقافيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ.

تَلاقي الأديان والمذاهب فيه جعله أرضاً نموذجيّة، حيث أناس متباينون على الصعيد الثقافيّ والدينيّ مدعوّون إلى العيش معاً على الأرض نفسها، وإلى بناء مجتمع سلام وحوار وعيش مشترَك، تؤدّي كلّها إلى مجتمع مستقرّ وخلاّق.

منه انطلق الحوار الثقافيّ بين الشرق والغرب منذ قرون بعيدة وتكثّف في القرون الوسطى، ولا سيّما في القرن السادس عشر مع المدرسة المارونيّة في روما عام 1584. ومنه حلّقت النهضة الثقافيّة في العالم العربيّ في مطلع القرن التاسع عشر، وانتشرت أفكار الحداثة بواسطة المدرسة والجامعة والصحافة.

في رحابه تقوم المبادرات المسكونيّة بفضل التراث الأنطاكيّ المشترَك بين مختلف الكنائس الشرقيّة الكاثوليكيّة والأرثوذكسيّة، والتلاقي الإسلاميّ- الاسلاميّ السنيّ - الشيعيّ مع الموحّدين الدروز، واللقاء الجامع ما بين هؤلاء كلّهم وبقيّة المكوّنات الروحيّة الأخرى (العلويون واليهود وغيرهم) والتي عادة ما يُطلق عليهم خطأً تسمية الأقلّيات.

وفيه تُعاش الحرّية الإيمانيّة ومعها الحرّية الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة، إلى جانب التفاهم والضيافة وانفتاح الروح، ضمن ديموقراطيّة تعدّدية ارتضاها اللبنانيون وكرّسها الدستور حفاظاً على جميع مكوّنات المجتمع اللبنانيّ، وإفساحاً في المجال لها جميعاً أن تشارك بالتوازي في الحياة الوطنيّة والقرارات المصيريّة، وفي إدارة شؤون الوطن، وفي بناء مشروع الدولة وتمتينه وتطويره.

أرضه عطيّة من الله، وهي مصدر الهويّة الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. ونهائيّة الكيان اللبنانيّ تضع جميع اللبنانيين أمام واجب مقدّس هو الدفاع عن استقلاله، وسيادة دولته الكاملة، وحرّية أبنائه في أخذ قراراتهم المصيريّة، والوقوف في وجه أيّ احتلال لأراضيه وانتقاص لسيادته، من دون حصريّة أو امتياز لفريق أو جهّة.

أمّا عضويّة لبنان في منظّمة الأمم المتّحدة فتعني التزامه بأهدافها ومبادئها التأسيسيّة. أي خير العائلة البشريّة الشامل والرغبة في السلام، والبحث عن العدالة، واحترام الشخص، والتعاون الإنسانيّ، بما يشمل أيضاً التمسّك بقرارات الشرعيّة الدوليّة، والمطالبة بتطبيقها كاملة، للحفاظ على كيانه ومصالح شعبه، ولحمايته من المطامع.

أما عضويّة لبنان في جامعة الدول العربيّة، فتجعله ملتزماً بقضايا العالم العربيّ لا سيما القضيّة الفلسطينيّة، ومشارِكاً أساسيّاً في ترقّي شعوب المنطقة. ولبنان مدعوّ إلى المساهمة الإيجابيّة في عملية خروج العالم العربي من مخاضه الراهن، بحثاً عن أنظمة سياسيّة معاصرة تليق بإنسانه وبعراقة تراثاته، وتقوّي حضورَه الإيجابيّ في عالم اليوم.

فلنتصوّر لبنان للحظة خارج هذه الوقائع والمسلّمات مجتمعة. هل يعود له من معنى؟! فلنتخيّله لثانية دون واحد من مكوّناته الحضاريّة أو أكثر. ماذا كان حلّ به؟! ما الذي يميّزه في هذا الشرق المتألّم وفي هذا العالم الذي يكاد يتخلّى عن كل حضور قيميّ وإنسانيّ؟! وما هو دوره ورسالته وكينونة وجوده؟!

إنّ ما يُنقذ التجربة اللبنانيّة هو العودة إلى جوهر الميثاق والالتزام بالصيغة، لأننا بهما نقفل بابَ الاستقواء بالخارج، والتفرّد في الداخل، والمَسّ بالسيادة الوطنيّة، ونعطي رصيداً لمخاضنا الوطنيّ ليكون نموذجاً وقيمة مضافة وحاجة حضاريّة للمجتمعات المركّبة والتعدّدية، للشرق وللعالم.

ليس من مشروعٍ وطنيٍّ آخر يوائم فكرة لبنان ومعنى لبنان وجوهر لبنان، خارج الدولة المدنيّة واللامركزيّة الإداريّة الموسّعة وتحييد الوطن عن الصراعات بين المحاور الإقليميّة والدوليّة.


إنّها الإدارة الفضلى المتكاملة للتنوّع في الوحدة، على أرض لا يسمح باستعمالها مقرّاً أو ممرّاً أو منطلقاً لأيّ عمل من شأنه أن يورّطه في هذه الصراعات أو في أزمات تتنافى وخصوصيّته.

وهذه تستدعي حتماً التوصّل إلى الاستراتيجية الدفاعيّة الوطنيّة المنشودة التي تمكّن لبنان من استرجاع أراضيه وحماية حدوده، عبر حصر السلاح اللبنانيّ بالقوى الشرعيّة المسلّحة وإخضاع المهمّات الدفاعيّة والأمنيّة لقرار السلطة السياسيّة دون سواها، وتعزيز الثقة بالقوى المسلّحة وتوفير الدعم لها وتجهيزها وتشجيع الشباب للانضواء تحت لوائها.


لقد عبّر منجزو الاستقلال العام 1943 عن مفهومهم للميثاق بشعار «لا شرق ولا غرب»، فأرادوه أولاً قاعدة لتأسيس دولة تحقّق أماني اللبنانيين جميعاً وتبعدهم عن المحاور والصراعات، بتخلّي خصوصيّاتهم عن الانشداد إلى اعتبارات تتخطّى الكيان اللبنانيّ ودولته، وثانياً كأساس لبناء علاقات هذه الدولة مع الخارج، المدعو إلى الاعتراف بخصوصيّة لبنان... وإلّا تعرّض الكيان لدوام الاهتزاز، وإنسانه لمهبّ الرياح العاتية. لكن فات منجزو الاستقلال تضمين الميثاق، الصياغة الدستوريّة المناسبة لإزالة كل التباس حول مفاهيم النأي بالنفس أو الحياد الإيجابيّ أو التحييد.

وفي وقت لم ينفض الغبار يوماً عن دقائق الحوارات التي جرت في لوزان وجنيف ومونترو وسان كلو... والطائف، ولا عن محاضرها، وفيها ذاكرة زاهية من خارج التراجيديا اللبنانيّة، بات من الملحّ اليوم التوصّل إلى تسوية تاريخيّة تقود البلد نحو ما هو أبعد من العيش معاً وتخطّي مستوى التساكن، وإلى ما هو أفعل من النأي بالنفس وما هو أعمق من مفهوم الحياد؛ إنّي أتحدّث عن فكرة لبنان ومعنى لبنان وجوهر لبنان. التجربة التّي من الصعب أن تتكرّر في ظروفها ومعطياتها وتحدّياتها في أيّ مكان آخر على الكرة الأرضيّة.

وهذا يتطلّب مبادرةً عمليّة من خارج الشعارات، يصبح معها «العيش معاً» و«النأي بالنفس» و»الحياد» تفصيلاً. مبادرةٌ مركّبة من الفكريّ والثقافيّ والفلسفيّ والحضاريّ والسياسيّ والدينيّ والزمنيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ بروح من مفهوم الأمن القوميّ اللبنانيّ.

فهل من سبيل آخر لكي يتحوّل لبنان بكيانه وكلّيته إلى أرض للحوار الكونيّ؟ إلى أمم متّحدة تتفاعل من أجل السلام والإنسان على امتداد مساحة لبنان وليس على قياس مبنى في نيويورك؟

أليس هكذا يكون لبنان النموذج لذاته وجوهره أولاً، ولجماعاته، وللشرق والعالم أجمع؟

  • شارك الخبر