hit counter script

مقالات مختارة - انطوان العويط

عن التسويات التي استثنت الإنسان في لبنان (1)

الخميس ١٥ كانون الأول ٢٠١٧ - 06:48

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الجمهورية

تفترض الواقعيّة السياسيّة العمل الجاد على نسج تسويات في وطن تتنازعه التجاذبات الحادّة، المحليّة منها كما الإقليميّة، ولطالما شَكّل الدينيّ والمذهبيّ فيها حيّزاً مهمّاً لا يجوز إنكاره.
في هذا الإطار، ليس من ضرورة تَستدعي استرجاع المحطّات الواضحة في معالمها والمؤلمة في إيقاعاتها، التي استوجَبت استنباط مخارج لأزمات قاسية أصابت النسيج الداخليّ في الصميم وهَدّدت كيانيّة الوطن.

في الوقت عينه، من البديهيّ القول إنّ التسويات التي شهدناها منذ العام 2005، إنما نتَجت عن خروج فاضِح على الدستور ومقتضيات الوفاق الوطنيّ ومفهوم الدولة، إضافة إلى تجاهل تام للإنسان، لِتُظَهّر بخياطة انتهكت بدورها الدستور، ساترة عُرْي «الدولة» بغلاف المصلحة اللبنانيّة العليا وخير المواطنين.

تجدر الإشارة هنا، ضمن سياق التحدّث عن الواقعيّة السياسيّة، إلى أنّ التسويات تبقى استثناءً في مفهومها وظروفها وفي الحاجة إليها، لكن حين تتحوّل إلى قاعدة نلجأ إليها فصليّاً أو شهريّاً وأحياناً يوميّاً، فالمنطق عندها لا بدّ أن يشير حتماً إلى واحد من ثلاثة أمور:

الأول، تيقّن أطرافها أنّها ظرفيّة غير مكتملة، وأنّها تلبّي مصالح ذاتيّة آنيّة لأصحابها، في انتظار تبدّل المعطيات وموازين القوى لتحقيق مزيد من المكاسب، أو ليتحوّل الرابح إذا كان رابحاً بالفعل إلى خاسر، والخاسر إذا كان خاسراً بالفعل إلى رابح.

الثاني، تغليب سهولة الاكتفاء بنتائج التسويات التي تستدرج عادة المعنيّين إلى المشاركة عميقاً في عملية تقاسم النفوذ والغَرْف من بقايا أطايب المنافع والتربّع مالكين سعيدين متلذّذين بالسلطة، على ذلك العمل الشاق في بناء دولة والانصراف إلى خير الإنسان.

هكذا تنتفي الرغبة الحقيقيّة في الإصلاح وتُلحس شعارات التغيير والقرار فيها، الأمر الذي يفرض بالمقابل إمّا إقفال الباب أمام فتح أيّ ملفّ وطنيّ مفصليّ أو تأجيل البحث الجدّي به إلى ما لا نهاية، وبالتالي التنازل عن مسلّمات وطنية جوهريّة.

الثالث، الاستسلام أمام إرادات الخارج وإملاءاته على تعدّدها في فرضها التسويات التي تلائم مصالحها. وفي حال النجاح في مواجهتها، تُترك البلاد فريسة مصير معلوم في الخضوع أمام فائض القوة المحليّ وسطوة السلاح من خارج المؤسّسات الشرعيّة وبأجندات لا علاقة لها بلبنان.

وهذا أوصَل الوطن إلى قعر معيب، خانع راضخ وذليل، لا يتوانى أحد من أهل الإقليم أو ها هنا عن إهانته وإنسانه، ولا يقصّر أحد في تمريغ أنفتهما وكبريائهما وسيادتهما.

في ظلّ هذا الواقع المشؤوم، لا يعود صعباً تفسير أحوال البلد وأوضاعه السياسيّة الهزيلة ومصير التسويات، والهَتك المدويّ لكرامة الإنسان فيه. كما لا يعود عَصيّاً فهم الانقلاب على المبادئ والتفريط بالوزنات وسقوط التفاهمات وتبدّل التحالفات.

وأمام تجليّات هذه الحقائق، هل مُمكن الاستمرار على ذات المسار الذي أودى بلبنان وبإنسانه إلى هذا الدرك، لتبقى طافحة على السطح مآثر الانبطاح والتزلّف والمصالح والمقايضات والصفقات وشبهات الفضائح والسرقات؟

لقد طَغت التسويات كافة على فكرة لبنان ومعنى لبنان وجوهر لبنان، لتقضي السياسات المتّبعة بالكامل على هذه الفكرة والمعنى والجوهر، إضافة إلى فكرة ومعنى وجوهر الإنسان فيه.

إنّ السياسة هي فنّ شريف يلتزم النشاط الوطنيّ السياسيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ والتشريعيّ والإداريّ والثقافيّ والإبداعيّ وغيره، المتعدّد الشكل، من أجل تعزيز الخير العام في حاضِنة الوطن، الذي هو مُجمل أوضاع الحياة التي تمكّن الأشخاص والجماعات فيه من تحقيق ذواتهم تحقيقاً أفضل.

إنّها كذلك لارتباطها بالشخص البشريّ وقيمته العظمى وحقوقه الأساسيّة المرتكزة على الشريعة الطبيعيّة المكتوبة في قلب الأوطان من خلال الإنسان، والحاضرة في مختلف الثقافات والحضارات.

وهي كذلك لأنّ هذه هي وظيفة أصحاب السلطة السياسيّة، فإذا فرّطت بما هو مرسوم لها، وقعت الفوضى الوطنيّة والقيميّة والسياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة.

لقد استثنَت معظم التسويات المعقودة فكرة لبنان ومعنى لبنان وجوهر لبنان، وفكرة ومعنى وجوهر الإنسان فيه. لذلك، كان من البديهي لها أن تتلاشى وتُطاح.

إنّه مع هذا الجوّ الملبَّد بالخيبة والريبة، وتعاظم ألم الشعب أمام رؤية المصالح الخاصّة والفئويّة والإقليميّة تطغى على الصالح العام، ومع انعدام احترام الكرامة البشريّة، من البديهيّ عندها القول إنّ الوقت قد حان للنظر، ليس في تسوية عابرة تتعلّق بالأشخاص والأسماء والقوى والموازين، بل في تكريس حقيقيّ، فعليّ، قيميّ، لواقع العمل السياسيّ في لبنان وجَعله في خدمة الانسان أولاً.

ببساطة، هذا يعني أنّ السياسة هي عمل أخلاقيّ من المستحيل له أن يتلاءم مع اعتماد الوسائل المُبهمة وغير الجائزة تسلّطاً والتباساً. كما لا يمكن له بأيّ وَجه أن يتآلف مع كل أشكال الاختزال والإقصاء والعزل. ولا يجوز له بطبيعة الحال رَهن الوطن وإنسانه بانتماء سياسيّ أو توجّه إيديولوجيّ أو ارتباط بفِقه دينيّ أو مذهبيّ خاص.

فلنذهب إلى فكرة لبنان ومعنى لبنان وجوهر لبنان، وفكرة ومعنى وجوهر الإنسان فيه، قبل أن ينهار الهيكل على الوطن ومَن فيه، وقد تَداعَت أساساته وظهرت التصدّعات فيه بما لا يعود ينفع معه القول «لات ساعة مَندم».

  • شارك الخبر