hit counter script

مقالات مختارة - دافيد عيسى - سياسي لبناني

نبيه برّي... "الاستاذ"

الإثنين ١٥ كانون الأول ٢٠١٧ - 06:52

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

أمور كثيرة تغيرت منذ 20 تشرين الاول 1992 في لبنان، رؤساء جمهورية، رؤساء حكومات، مجالس نيابية، الظروف، المعادلات، موازين القوى، قواعد اللعبة ، رحلت جيوش ووصايات... موقع واحد لم يتغير وشخص واحد لم يتبدل اسمه نبيه بري في رئاسة مجلس النواب الذي بقي الثابت الوحيد وسط متغيرات سياسية، والصامد في وجه التحديات وألازمات، والصّانع والرّاعي للتسويات والاتفاقات، ما كان ليستمر ربع قرن في موقعه ودوره لو لم يحسن الإدارة الحاذقة للعبة السياسية، ولو لم يحسن التعامل مع خصوصية التركيبة اللبنانية وتوازناتها الدقيقة.
تسلّم بري باكراً مسؤؤليات قيادّية في حركة امل، وتسلّق سلّم قيادة الحركة التي اسسها مثله الاعلى الامام المغيب موسى الصدر، ومن بعدها سلّم الرئاسة الثانية، ليصبح الرجل الثاني في الدولة وأحد أركان السلطة الأساسيين والثابتين في لبنان.
أتقن "الاستاذ" قواعد اللعبة وفن المناورة السياسية فكان محوراً ومرجعاً ورقماً صعباً ومساهماً في صنع الاحداث والقرارات والرؤساء والحكومات.
يتمتع نبيه بري بجاذبية سياسية وكاريزما قيادية قل نظيرهما، وهذا ما جعله "سيد اللعبة" على امتداد ٢٥ عاماً والممسك بزمام المبادرة والعامل دوماً على تدوير الزوايا وإنتاج التسويات وإيجاد المخارج واقتراح الحلول.
لم يكن هذا الرجل لاعباً سياسياً ماهراً وحاذقاً فقط، وانما كان مرجعاً وطنياً "وصمّام امان الوحدة الوطنية" كل مرة تعرضت هذه الوحدة لاهتزاز او واجهت خطراً محدقاً، اليه يرجع الفضل الأساسي في اطلاق الحوار الوطني ابتداء من العام ٢٠٠٦ لحلحلة الملفات المتشابكة، وفكفكة الأوضاع المفخخة، وللخروج من اخطر واسوأ ازمة وطنية شهدها لبنان وكادت ان تفجره في الفترة الواقعة بين حرب تموز ٢٠٠٦ واحداث ٧ ايار ٢٠٠٨ والتي انتهت الى "اتفاق الدوحة".
وعندما انفجرت ثورات وحروب "الربيع العربي" وفاحت روائح الفتنة "السّنية – الشيعيّة" في المنطقة، واندلع الحريق السوري الهائل الذي هدد لبنان، سعى بري جاهداً الى وأد هذه الفتنة ومنع تمدد الحريق الى لبنان "وابتكر" صيغة حوار ثنائي بين " تيارالمستقبل وحزب الله" واستضافه في مقر اقامته في عين التينة ليكون الحوار "السّني - الشيعي" الوحيد في المنطقة العربية.
ما أضاع بري "البوصلة الوطنية" يوماً، فهو استراتيجي من الطراز الرفيع، ما اعترضته عقدة إلّا وحلّها، هذا الجنوبي الإنتماء والهوى "والمتعصّب جدآ" للبنان، عمل دوماً في إطار الدولة وتحت سقفها، وظلّ من أشدّ المؤيّدين للجيش اللبناني والمدافعين عنه، فكان علامة للاعتدال في زمن الغلو والتطرف.
عرف نبيه بري كيف يفصل بين المصلحة الوطنية ومصلحته السياسية وكيف يقيم الخط الفاصل بين ما يرغب به ويناسبه وبين ما يجب أن يكون، وهذا ما اثبته في محطات واستحقاقات كثيرة كان آخرها في إنتخابات رئاسة الجمهوية قبل عام ونيف.
اذ انه فور انتخاب العماد ميشال عون رئيسآ للجمهورية اللبنانية تعاون معه لتشكيل حكومة العهد الأولى، وكان له دور أساسي في تذليل العقبات من طريقها، وها هو اليوم مع رئيس الجمهورية يشكلان ثنائيآ متناغمآ عندما يتعلق الموضوع بمصلحة الوطن العليا...
وهذا ما حصل مؤخرآ بعد استقالة رئيس الحكومة سعد الحريري، حيث اعطى رئيس مجلس النواب نبيه بري رئيس الجمهورية تفويضاً لإدارة أزمة الإستقالة وثقة مطلقة في هذا المجال، وأيّده في اعتبار الإستقالة غير نافذة دستورياً وما زالت أستقالة إعلامية وغامضة في ظروفها وملابساتها، ومما لا شك فيه أن التنسيق والتعاون بين الرئاسة الاولى والرئاسة الثانية أشاع أجواء طمأنينة وارتياح وعوّض عن الفراغ القسري في الرئاسة الثالثة ورسّخ وحدة الحكم وجعل من هذه الثنائية ثنائية وطنية وبمثابة صمام أمان للإستقرار والوحدة.
كما تصرف نبيه بري ومعه "حزب الله" مع الاستقالة بكل هدوء ولم يتسرعا ولم يتهورا، ولم يندفعا الى استثمار الوضع المستجد واستغلاله، ولم يدفعا باتجاه توتير الوضع واثارة الغرائز والعصبيات، وانما تعاطيا مع الوضع بروية وبطريقة هادفة من اجل استيعاب الازمة وتفكيكها حتى لا تنفجر وتفجر الوضع الهش.
ولعل اهم استنتاج يمكن الخروج به وافضل شيء كشفته الازمة ان "الثنائي الشيعي" متمسك ببقاء سعد الحريري رئيساً للحكومة وزعيماً للطائفة السنية.
أما الدور الأبرز الذي يضطلع به الرئيس برّي في هذه المرحلة فهو دور "الضامن" لإجراء الإنتخابات السياسية في موعدها وعدم الإفساح في المجال أمام أي ذريعة وحجّة لتأجيل الإنتخابات مرة جديدة وحيث لم يعد هناك من سبب وداعٍ الى عدم إجراء الإنتخابات والى تمديد جديد للمجلس النيابي حتى لو كان "تمديداً تقنياً" ولأشهر معدودة، لقد كان الرئيس بري حاسماً في التأكيد على الإنتخابات وعدم السماح بوضع العصي في دواليبها وبأي إجراء يمكن أن يستغلّ لتأخيرها أو تأجيلها سواء كان إجراء تقنياً مثل "البطاقة البيومترية" أو إجراء سياسياً مثل إدخال تعديلات على القانون الإنتخابي الجديد.
ولأنّ الرئيس بري رجل ثقة ويمكن الركون إليه ويشكّل موقفه ضمانة للإنتخابات، بات في حكم المؤكد أن الإنتخابات ستجري في موعدها وعلى أساس القانون الجديد الأكثر عدلاً ومساواة والأصح تمثيلاً، وإنها ستكون حجر الأساس في بنيان الإصلاح السياسي وفي عملية تصحيح التوازن والتمثيل لجهة إعطاء كل ذي حق حقّه وكل ذي حجم حجمه.
هنيئاً لنبيه بري "الاستاذ" سنواته الـ ٢٥على رأس مجلس النواب، وهنيئاً للبنان هذا الصنف من الرجال الذين يطبعون الحياة السياسية بطابعهم الخاص ويتركون فيه أثراً وبصمات...

دافيد عيسى - سياسي لبناني

  • شارك الخبر