hit counter script
شريط الأحداث

الحدث - د. نقولا أبومراد

القدسُ عاصمةٌ لإسرائيل؟

السبت ١٥ كانون الأول ٢٠١٧ - 18:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

لئن كانت القضيةُ المثارة حول اعتراف الولايات المتّحدة الأميركيّة رسميًّا بالقدس - أو أورشليم كما في التسمية الإنكليزيّة للمدينة – "عاصمةً لإسرائيل"، في جوانبها الغالبةِ ذاتَ أبعادٍ قانونيّة تتّصل بقرارات الأمم المتّحدة والأسرة الدوليّة وأحكام القانون الدوليّ الرافضة كلّها، إلى الآن، تكريسَ احتلال إسرائيلَ للقدس الشرقيّة سنة 1967، وضمّها إلى الأراضي المحتلّة، ولئن كان مصيرُ القدسِ متروكًا في المفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة منذ توقيع اتّفاق أوسلو (1993) للبحثِ كبندٍ أخيرٍ من البنود المطروحة للمفاوضات النهائيّة، إلاّ أنّ إصرارَ الحكومة الأميركيّة بقيادة دونالد ترامب على توقيع القرار الذي يقضي بنقل السفارة الأميركيّة من تل أبيب إلى القدسِ ينمّ، ليس فقط عن أبعادٍ سياسيّة، ولكن أيضًا عن ادّعاءات تاريخيّة ودينيّة قوميّة تستند إلى قراءة أصوليّة وحرفيّة لروايات الكتبِ المقدّسة.

وقد أتى التأكيدُ على الدورِ المحوريّ الذي تلعبه هذه المزاعمُ الدينيّة في تصريحِ رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو اليومَ تعليقًا على خطوة ترامب، إذ قال، "تحظى هويّة إسرائيل التاريخيّة والقوميّة كلّ يومٍ، واليومَ بشكل خاصّ، باعتراف مهمّ". والسؤال المشروعُ في هذا الخصوص هو: أي ّعلاقةٍ بين القدس كعاصمةٍ لإسرائيل وبين الهوية التاريخيّة والقوميّة لإسرائيل؟ بدايةً تذكير بأنّ القدس احتلّـتها إسرائيل في حرب 1967 بعد أن كانت موضوعةً، بعد 1948، تحت سلطة المملكة الأردنيّة. وسنة 1980، أصدر الكنيست الإسرائيليّ قانونًا اعتبر بموجبه القدس "عاصمة نهائيّة وموحّدة لإسرائيل"، الأمر الذي دفع عددًا من الدول التي كانت ممثلّة بسفارات في القدس، إلى نقلها إلى تل أبيب احتجاجًا على مخالفةِ هذا القانون للشرعيّة والمواثيق والأعراف الدوليّة التي كانت ولا تزال تعتبر القدسَ أرضًا محتلّة.

تعود جذورُ المزاعم الدينيّة والتاريخيّة الحديثة المتّصلة بفلسطين كأرضٍ تاريخيّة لليهود إلى الأفكارِ الرومنسيّة لبعضِ البحّاثة الإنكليز في أواسط القرن التاسع عشر، من الذين أتوا إلى فلسطين للقيام بدراسات أثريّة بغية تأكيد تاريخيّة الرواياتِ المتضمّنة في كتب ما يسمّى اليوم "العهدَ القديم" بلغة المسيحيّين، أو "التوراة" بلغة اليهود. وقد تطوّرت أفكارُ هؤلاءِ بشكل لا يسعنا أن نفصّله في هذه المقالة إلى نظامٍ فكريّ، عبر في مخاض المؤتمر الصهيونيّ الأوّل الذي عقد في مدينة بازل السويسريّة في آب 1897، وكان على أساسِ القناعات الدينيّة لرئيس الوزراء البريطاني لويد جورج (1916 – 1922)، الذي كان صلبًا في دعمه المزاعم الصهيونيّة. كان آرثر بلفور وزيرَ خارجيّة حكومته حين أرسل إلى اللورد روتشيلد، كبير وجهاء اليهود البريطانيّين، رسالته الشهيرة سنة 1917، والتي عُرِفت في ما بعد بإعلانِ أو وعدِ بلفور، وفيها إقرار "بالتطلّعات الصهيونيّة لليهود"، وتعدهم بأن تكون فلسطين "أرضًا ووطنًا قوميًّا لليهود".

البحثُ في تاريخيّة المستنداتِ التي ترتكز إليها هذه المزاعمُ يعيدنا قرابةَ ألفي سنةٍ إلى الوراء بالحدّ الأدنى. في أيّام الرومان (ابتداء من سنة 67 ق. م.) كانت أورشليم مدينةً في مقاطعة اسمها يهوذا وقد بدّل الرومان اسمها مرّات عدّة، وكان يحكم فيها والٍ تابعٌ للسلطة الرومانيّة. وخضعت قبل ذلك، كسائر حواضر الشرق، لليونان والفرس والبابليّين. ما مِن شاهدٍ أثريّ على الإطلاق، باعتراف كبار العلماء، ومن بينهم علماء آثار يهود معاصرون من أمثال إسرائيل فنكلشتاين ونيل سلبرمان، يؤكّد أيّ ادّعاء تاريخيّ يتعلّق بالحقبة التالية للقرن الخامس قبل الميلاد، سوى بعض الحجارة والشذراتِ القليلة المكتوبة التي وجدت بعيدًا عن أورشليم، في منطقة قمران على البحر الميت، تبيّن أنّه كان هناك فرق من اليهود على علاقة سيّئة بقيادات أورشليم الدينيّة تركت المدينة اعتراضًا ولجأت إلى أماكن بعيدة للاستقرار.

إذا كانت الشواهد الأثريّة على حقبة ما بعد القرن الخامس ق. م. نادرة وشبه معدومة، فكم بالحري الشواهد على الحقبة السابقة للقرن الخامس وصولاً إلى القرن العاشر ق. م. والتي تضع فيها روايات العهد القديم الأحداثَ التي تستند إليها المزاعم الدينيّة والقوميّة والتاريخيّة القائلة بحقّ إسرائيل في القدس عاصمةً. الحقيقة أنّ المصدر الوحيد للمعلومات عن تلك الفترة من تاريخ فلسطين هي نصوص العهد القديم. ولئن افتتح علماء الكتاب المقدّس الألمان ابتداءً من أواخر القرن التاسع عشر، خصوصًا، مع يوليوس فلهاوزن ومدرستِه الفكريّة، خطَّ دراسات تاريخيّة لنصوص العهد القديم تستعمله كمصدر، أو مجموعة من المصادر، لإعادة بناء ما يُسمّى تاريخَ إسرائيل القديم، وهذا الخطّ مستمرّ إلى اليوم، وقد ترسّخ في عالم دراسات الكتاب المقدّس رسوخًا كبيرًا، إلاّ أنّ ثمّة أصواتا جدّية بين كبار مفسّري الكتاب تدافع عن خطّ تفسيريّ لهذه الروايات يقول بأنّ غايتها تعليميّة ولا تهدف إلى تسجيل حقائق تاريخيّة. يستند هؤلاء إلى غياب أيّ إثبات تاريخيّ من خارج الكتاب، سواء في فسلطين أو في الحضارات المجاورة، يؤكّد تاريخيّة أيّ من الأحداث أو الوجوه المذكورة، وكذلك إلى قراءة أدبيّة سرديّة للروايات تبرز غناها التعليميّ وتناسق أجزائها أدبيًّا.

والحقيقة أنّنا إذا أخذنا موقع أورشليم في هذه الرواياتِ نرى أنّ المدينةَ تلعب أدوارًا روائيّة وسرديّة مختلفةً وكأنّها عنصر من عناصر مثلٍ يبدّل الكاتب فيه وفق ما تقتضيه رسالته التي يريد تبليغها. أهمّ ما في الأمر أنّ أورشليم كانت تنظر إليها الرواياتُ دومًا من منظور أداء الملوك الذين حكموا فيها والتزامهم بالمشيئة الإلهيّة. وكان معناها يتأرجح بين مدينة أرضيّة سقطت ودمّرت بسبب خطايا الملوك الذين يحكمون فيها ابتداءً من داود، وبين مدينةٍ سماويةٍ بناها الله وجعلها قبلة للشعوب لكي تعيش فيها بسلام وفق مشيئته، من دون احتراب أو عداءٍ، ويسكنها الأتقياء والأبرار الذين لا سلاح في أيديهم بل سلام أبديّ. بين أورشليم المدينة الأرضيّة المحكوم مصيرها بتصرّف ملوكها وإرادتهم والساقطةِ في نصوص الكتاب وبين المدينة السماوية التي الله أساسُها وركنها، وكلمته ترعى الساكنين فيها، مسيرة طويلة فيها من التوبة وتغيير الذهن وخلع الأفكار البشريّة القائمة على الكبرياء الحضاريّ والأطماع والظلم والقتل والاغتصاب، قدر كبير. في هذه المسيرة لا يبلغ أورشليم السماويّة، قدسَ الله، في نصوص الكتاب التي تلقي الضوء التفسيريّ على الروايات، إلاّ مَن أخلى ذاته من كلّ بغض وحقد وظلم وطمع. في هذا تكون أورشليم التي عرفتها مملكة إسرائيل صورةً لضعف الناس أمام القوّة، وشرورهم، ومنها ينطلقون إلى ما هو أفضل، إلى حيث يلتقي البشر بعضهم ببعض كبشر واقفين أمام إله يريد السلام لهم والمحبّة.

هذه القراءة الكتابيّة مصدرها نصوص من العهد القديم كالمزامير والأنبياء وكتب أخرى تقرأ الروايات وتفسّرها وتقدّمها للقارئ. وما التضاد الذي يقيمه العهد الجديد بين "أورشليم قاتلة الأنبياء والمرسلين" و"المدينة النازلة من السماء" سوى تأكيد على شرعيّة هذه القراءة وعلى أنّها الركن أو الأساس الذي لا تصحّ قراءة للكتاب إلاّ من خلاله.
وعليه، فإنّ النصوص التي يستند إليها المطالبون بحقّهم في القدس عاصمةً، لا تبرّر هذا، بل تدعوهم إلى أن تكون الغاية من تاريخهم وتاريخ غيرهم من الشعوب الالتقاء على أسسِ سلامٍ أبديّ ثابت لا غشّ فيه. ولا ضير من أن تكون القدسُ نافذةً أو تذوّقًا مسبقًا لهذا السلام، وذلك لاحتوائها على إرثٍ دينيّ مشترك يجمع الأديان الثلاثة، ويؤهّل أتباعها لأن يلتقوا فيها إخوةً في الحقّ والبرّ، ويسيروا معًا في بناء إنسانيّة على ملء قامة الكلمة الإلهيّة المبثوثة فيهم. ولكنّ التجاذب السياسيّ الذي يحكم هذه المدينة اليوم، وكلّ مدينة في هذا الشرق، والقائم على الاعتبارات السياسيّة الهشّة، وعلى منطق الاحتراب والأطماع والاستيلاء على ما للغير، يشوّه رمزيّتها، ويسيء إلى وجه الله فيها. وما دامت تحكمها غرائز القوى العدائيّة وكره الغير، فستبقى القدس رهينةَ اليد الغاشمة إلى أن يخرج من أطلال الهيكل ومن عامود كنيسة القيامة وصخرة المسجد الأقصى نورٌ يقصي ظلمة الناس ويهديهم إلى أمن الله وكنفه. 

  • شارك الخبر