hit counter script

باقلامهم - جورج عبيد

البطريرك إغناطيوس الرابع وبعد خمس سنوات من الغياب

الخميس ١٥ كانون الأول ٢٠١٧ - 10:41

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قبل وفاته بأسبوعين، كانت غرفة البطريرك إغناطيوس الرابع في مستشفى القديس جاورجيوس في بيروت محجتي وكان يتهيّأ للتحرر من وطأة الوعكة الصحيّة ليعود إلى نشاطه بعد فترة من النقاهة. جلست في حضرته وقد ذهبت لعيادته، فدامت الزيارة ساعتين كان الحديث فيها هادئًا مشحونًا بطاقات الوداعة ولطافات المحبة وطريَّا بنسائم الأبوّة الصادقة التي لقيتها فيه. كلّما هممت بالخروج كان الراحل الكبير يستبقيني للكلام والاستمرار في الزيارة. ذلك أنّه مضىت حقبة من الزمن طويلة لم نلتق فكان هذا اللقاء بمثابة تعويض عن تقصيري تجاهه وما كنت أدري أنه سيكون الأخير وسيصمت إلى الأبد في حمأة اللجج الصاخبة والتبدلات الصارخة، ليس على الصعيد السياسيّ بل على الأصعدة الكيانيّة هنا وثمّة.

لم يكن اللقاء بمضمونه اعتياديًّا، والبطريرك إغناطيوس في الأساس قامة فكريّة وهامة ثقافية يؤمن بهذا المشرق إيمانًا صارخًا وينطق بالجذور وقد اعتبر غير مرّة بأن القدس وهي تهوّد الآن معراجنا إلى السماء، لبنان وسوريا وفلسطين ثلاثة أقانيم تحيا في برّ الله وسلامه وجزء من فكره وقد جعل الوليد الإلهي هذا المدى جسده ليس بالمعنى المجازيّ بل الكيانيّ. في هذا اللقاء أضاء بفكره النيّر وهدوئه المتّزن على المسألة السورية بأسرها والمسألة اللبنانية غير معصومة عنها. غسل الأرض الرماديّة بصراحته وموضوعيّته لتصير بلوريّة شفافة، وقال بالحرف الواحد: "ليس الهدف من هذه الحرب إسقاط بشار الأسد الهدف إسقاط سوريا، المؤامرة كبيرة جدًّا هي تنتمي إلى سياق واحد، سياق كتبته إسرائيل بحقد كبير تساندها بعض الأنظمة العربية، وعلى النخب الفكريّة والسياسيّة الراقية التصدّي لها لأنها غير محصورة بسوريا بل في سوريا والعراق ولبنان ومتى تمّ تحطيم هذا المثلّث الحيويّ ستنسى الأمم فلسطين وتضيع بل تذوب ذوبانًا كاملاً ويكون الأردن في خطر شديد". وأردف قائلاً لا تصدّق بأنّ بشار الأسد مجرم أنا أعرفه منذ يفاعته هذا رب أسرة وأولاده صغار وزوجته أسمى من عائلة عريقة راقية وهي سيدة راقية ورقيقة هذا إنسان لا يقتل وكل ما قيل عنه وسيق من اتهامات كلام فارغ و"حكي عجيان"... على الإعلام أن يكون واقعيًّا وصادقًا في الوصف وعلى الإعلاميين أن يشهدوا للحق، ما نحن عليه يتطلب المزيد من الوعي والفهم حتى نتصدى بقوة لهذه المؤامرة اللعينة، والمسلمون المستنيرون مطالبون بقمع من يحرّف الإسلام السمح ويقوده إلى خارج تراثه الصحيح..." وقد أوصاني بلغته المعهودة: "خلليك رجال وما تطلّع لورا خللي عينيك لقدام للمستقبل، يللي مضى مضى مناخد منو عبر، عليك إنك تشهد للحق بكل كلمة وحافظ على نفسك بلا لوم ولا عيب وعلى عيلتك بحنان ورعاية طيبة ما في شي بيبقى إلاّ العيلة المتماسكة، العيلة المتماسكة أساس الكنيسة أساس لبقاء المسيحية واستمرار القيم".

ودعته في نهاية اللقاء وقد استذكرنا فيه محطات شخصيّة وعائليّة، كان يحبّ عائلتي وبعض أفرادها كعمي سامي كانوا رفقاء دربه منذ ايام الجامعة الأميركيّة في بيروت، استذكر كيف أنه وشلّة من أترابه في ذلك الحين ومن بينهم رفيق عمره غسان تويني وسامي عبيد (كبير جراحي الجامعة الأميركية في حقبة السبعينات والثمانينات حتى تقاعد) وسليم سلام وغفرئيل صليبي (المطران لاحقًا) كانوا يلتقون معًا، والدكتور شارل مالك كان أستاذهم ومرشدهم، فيما هو كان يعلمهم أصول اللغة العربية، واستذكر كل أصدقائه من العائلة وصولاً لوالدي أطال الله بعمره وقد اعتبره مرجعًا في الأخلاق والقيم والأدب والفكر... وأوصاني من جديد أن أكمّل هذا التراث لأنه أصيل وضارب جذوره في أعماق سوريا ولبنان.
واليوم وبعد خمس سنوات على غيابه، أشعر بوطأة تلك الكلمات ودقتها ومسؤوليتها. إغناطيوس الرابع المتواضع بالروح والقلب، قامة من نور، عظيم في المحبة والرؤى، خزّان للمعرفة والقيم، وعاء للإيمان الصادق والأصيل، في لحظات الألم زرع فينا الأمل، وفي زمن المحن استمددنا منه المنطق والهدى، وفي مرحلة الفوضى السياسيّة والطائفيّة كان يعقلن الرؤى ويشدّها إلى الصواب والانتظام.

كان عنيدًا في الدفاع عن الكرامة البشريّة والروحيّة، ويؤمن بحق الاختلاف، يسمع النقد ويوليه اهتمامًا فائقًا، يعرف كيف يحضن وهو ملمّ بفكفكة العقد ضمن الكنيسة. آمن بالعلم والمعرفة فكان البلمند وليد رؤيته، والمعرفة عنده سقراطية تنطلق من الذات، وهي قرينة للحرية. وأستذكر بأنه سنة 1993 حضرت القداس الإلهي برئاسته في دير القديس جاورجيوس الحميراء في قرية المشتاية وادي النصارى، طلب مني غبطته أن ابقى بعد القداس لأنه سيستقبل وفدًا من مجلس الكنائس العالميّ، وفي معرض الكلام معهم، اشار غبطته إلى أن مدرسة عريقة نمت في رحاب الدير وإغلاقها على عهد البطريرك ألكسندروس طحان كان خطأ كبيرًا لأن هذا الوادي يحتاج للمعرفة ومتعطش لها وفيه أطباء ومفكرون وأدباء وقد اضطر هؤلاء إلى السفر إلى بيروت وسوق الغرب والكورة لتحصيل علومهم، وأردف قائلاً لقد قررت تأسيس جامعة في جوار دير البلمند في الكورة لأنني مؤمن إيمانًا شديدًا بأنّ المعرفة لا تنمو سوى بالحرية والحجر عندنا سواء هنا أو في الكورة أو في أي مكان من هذا المشرق ينطق بهويتنا وفكرنا، والجامعة يفترض بها أن تنطق وتعبّر عن ذاتيتنا وهويتنا". 

بعد خمس سنوات نشتاقه وتبقى وصاياه منارة لنا. فالمسيح وكما كان يردد لم يولد في نيويورك أو روما أو باريس، المسيح ولد هنا وعاش فيما بيننا وأكل معنا ومات في القدس وقام في القدس. وكأنه كان يقول محافظتكم على هذا التراث العظيم والهوية الأصيلة محافظتكم على المسيح يسوع نفسه وهو مشرق المشارق.
رحمه الله، ونشتاقه في هذا الزمن لنتذكر بأن لنا منارات لا تزال تضيء على الرغم من الغياب، والبطريرك الراحل الحبيب منارة تضيء ليلنا في لحظات الظلم والظلام، هذا هو الرجاء وبه نتعزّى ونستمر.... 

جورج عبيد

  • شارك الخبر