hit counter script
شريط الأحداث

مقالات مختارة - خيرالله خيرالله - الراي

العالم كلّه في أبو ظبي

الخميس ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٧ - 06:21

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

كان العالم كلّه في أبو ظبي. لم تكن الجائزة الكبرى، وهي المرحلة الأخيرة من بطولة العالم لسباقات السيارات (فورومولا وان) سوى مناسبة أخرى كي تتأكد العلاقة بين دولة الامارات العربية المتحدة من جهة، وثقافة الحياة والفرح والبهجة والانتماء الى العالم المتحضّر، من جهة أخرى.

يشعر اللبناني عندما يحضر سباق الجائزة الكبرى لابو ظبي، التي استضافتها حلبة جزيرة ياس، بغصّة. هذا ليس عائدا الى وجود سيّاح وزوار ومقيمين في الامارات ينتمون الى 148 جنسية من مختلف انحاء العالم فحسب، بل هو عائد أيضا الى القدرة التي تمتلكها دولة شابة على تنظيم مثل هذا النوع من النشاطات في أجواء آمنة من دون ايّ حادث يذكر. لا وجود لتجاوزات من ايّ نوع في خلال سباق الجائزة الكبرى. كلّ ما هناك ان الناس في عيد مستمرّ يستمرّ ايّام الجمعة والسبت و الاحد. كلّ خطوة تبدو مدروسة، بما في ذلك النشاطات الترفيهية التي تشمل حفلات موسيقية وغنائية لنجوم كبار.

لا تزال الامارت دولة شابة، نسبيا. استقلّت قبل 46 عاما في مثل هذه الايّام من العام 1971. كان اقل من نصف القرن كافيا لاثبات انّ الامارات استثناء على كلّ صعيد، بما في ذلك تحولّها الى دولة تلعب دورا في تحقيق الاستقرار الإقليمي والدفاع عنه. تجاوز حلم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان حدود الامارات. صار فكر التسامح والتصالح مع العصر، ومع الذات اوّلا، ضرورة لكلّ دولة من دول المنطقة تريد بالفعل مواجهة الإرهاب والتطرّف وفكر الاخوان المسلمين الذي غزا البرامج التعليمية والاعلام في اكثر من مكان وفي غير اتّجاه.

ليس تنظيم حدث كبير مثل الجائزة الكبرى لابو ظبي حدثا عاديا. لا بدّ للدولة المنظّمة من توفير شروط معيّنة وصارمة. في مقدّم هذه الشروط تأتي الحلبة ومواصفاتها ثمّ الامن والأمان وحسن التنظيم الذي يحتاج الى فريق كبير من المحترفين والمتطوعين. كان هناك شعور بالفخر لدى اللبناني عندما يرى مواطنا اماراتيا متطوّعا يرشد الزائر الى المكان الذي عليه ان يتوجّه اليه في حلبة فاس المترامية الأطراف التي يتوسّطها ميناء سياحي فيه مئات اليخوت.

اعطى سباق الجائزة الكبرى لابو ظبي للسنة 2017 فكرة عن دولة حديثة وفتيّة قادرة على ان تكون لاعبا إقليميا أساسيا وفعالا على غير صعيد. لا تخوض الامارات معركة محاربة الإرهاب والدفاع عن مجتمعها بغية ان يكون في منأى عن الفكر المتطرّف فقط. هناك ذهاب الى ما هو ابعد من ذلك بكثير في بلد يقوم بواجبه في التصدّي عسكريا للخطر الآتي من اليمن والذي تقف خلفه ايران. ليس سرّا ان قوات إماراتية تقاتل خارج حدود الدولة. هناك شهداء سقطوا غدرا في مواجهات عدّة. لكن زائر الامارات لا يشعر بأيّ تأثير لذلك على حدث مثل جائزة أبو ظبي. على العكس من ذلك، خرج سلاح الجوّ الاماراتي غير مرّة وادى عروضا اقلّ ما يمكن ان توصف به بانّها رائعة. أظهرت تجربة الامارات من خلال مثل هذه العروض الجويّة ان دولة حديثة تُبنى لُبنة لبنة وان بناء الدول الحديثة لا يمكن ان يكون من دون تضحيات من الشعب الاماراتي الذي يبدو اكثر من مقتنع بانّ عليه الدفاع عن تجربة فريدة من نوعها في المنطقة.

ليس صدفة ان متحف اللوفر فتح ابوابه قبل ايّام قليلة من موعد الجائزة الكبرى لابو ظبي. لم تحل المعرفة المسبقة للسائق الذي حاز على لقب بطولة العالم قبل السباق الأخير دون مجيء الزوّار الى أبو ظبي لحضور سباق السيارات والمرور على اللوفر في الوقت ذاته. كان الاقبال كبيرا على جزيرة ياس وكان معظم الذين جاؤوا من أوروبا يتطلّعون أيضا الى زيارة متحف اللوفر الذي نقل بعض مقتنياته الى ابو ظبي...

نعم، كان العالم كلّه في ابو ظبي. كانت الفنادق مليئة وكان كلّ زائر يتصرّف بالطريقة التي تروق له من دون ان يعني ذلك أي ازعاج للمواطن العادي الذي بات يمتلك ثقافة خاصة به تقوم على الثقة بالذات. انّها الثقافة التي زرعها الشيخ زايد الذي حوّل أبو ظبي الى مساحة خضراء. خلقت هذه الثقافة انفتاحا كبيرا لدى المواطن الاماراتي واكسبته مناعة تسمح له بالمحافظة على التقاليد الخاصة بالمجتمع، وهي تقاليد عربية اصيلة مرتبطة بالإسلام كدين يقول بالانفتاح على الآخر والاعتراف به من دون ايّ عقد من ايّ نوع.

عرفت الامارات كيف تدافع عن نفسها في وجه العواصف الإقليمية. تسلّحت بالحكمة قبل ايّ شيء آخر. كانت حكمة الشيخ زايد وراء قيام الاتحاد الذي يضمّ سبع امارات تعيش في ما بينها في أجواء من الثقة المتبادلة والمصلحة المشتركة.

لم يكن ينقص بلد مثل لبنان شيء كي ينظّم بدوره سباقا مثل الجائزة الكبرى لابو ظبي. الفارق ان لبنان لم يعرف كيف يحمي نفسه ومجتمعه في مراحل كان عليه فيها التنبّه الى خطورة ترك الخارج يتدخّل في شؤونه. كانت جريمة ترك الفلسطينيين يتسلّحون ويقيمون دولة داخل الدولة كبرى الجرائم التي دفع اللبنانيون وما زالوا يدفعون ثمنها الى اليوم. ذهبت «جمهورية الفاكهاني» التي كان ياسر عرفات يفتخر بانّه اقامها في لبنان وبقيت دويلة «حزب الله» التي صارت تنافس الدولة اللبنانية وثمّة من يؤكّد انّها اقوى منها. بات على الحكومة اللبنانية برئاسة سعد الحريري خوض معارك يومية لتثبت ان لبنان لا يزال دولة قابلة للحياة وان اللبنانيين ما زالوا يقاومون دويلة «حزب الله» التي تقف خلفها ايران.

يخوض اللبنانيون معارك يومية من اجل تأكيد ان بلدهم ما زال متعلّقا بثقافة الحياة ومرتبطا بها وانه لا افق لثقافة الموت والبؤس والافقار التي تسعى ايران الى فرضها على الوطن الصغير من اجل تحويله مجرّد مستعمرة.

في الواقع، يخوض لبنان عمليا معركة تأكيد انّه لا يزال دولة عربية وانّه جزء لا يتجزّأ من محيطه العربي.

من خلال كلّ ذلك الفرح الذي يشاهده زائر أبو ظبي، يتبيّن انّ الوضع العربي ليس ميؤوسا منه وذلك على الرغم من المآسي التي تتعرّض لها دولة كبيرة مثل مصر. هناك في العالم العربي من لا يزال يؤمن بإمكان تغيير المجتمع نحو الأفضل وتمكينه من امتلاك مناعة في مواجهة كلّ أنواع التطرّف. لا عيب في تسمية الأشياء باسمائها. لا عيب خصوصا في الايمان بضرورة نشر ثقافة الحياة والابتعاد عن كلّ ما من شأنه المسّ بهذه الثقافة. ليس عيبا أخيرا في الاستعانة بكلّ ما يبعد الطفل، منذ دخوله المدرسة، عن المناهج التعليمية التي يفرضها جماعة الاخوان أولئك الذين يروجون لثقافة «داعش»، وهي ثقافة تعتمدها ميليشيات سنّية وأخرى شيعية.

ثمّة فارق بين من يرد ان يتقدّم ويتطوّر وبين من يرد البقاء في اسر الماضي بدل الاستفادة من تجاربه وتفادي ما هو سيء منها. من حسن الحظّ انّه صار هناك نموذج يمكن الاقتداء به في المنطقة العربية. لو لم يكن هذا النموذج ناجحا، لما كانت الجائزة الكبرى لابو ظبي ولما كان كلّ هذا العالم الفرح في تلك المساحة الصغيرة.
خيرالله خيرالله - الراي

  • شارك الخبر