hit counter script

مقالات مختارة - علي الحسيني - المستقبل

بيار الجميل... شهادة على طريق الحرية

الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٧ - 06:16

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تطلّ اليوم ذكراه الحادية عشرة، ذكرى لا يُريد العقل ولا القلب أن يشفيا منها. هو شخص يختصر بعنفوانه وإصراره على الخروج بأبناء جيله من الظُلمة إلى النور، مسيرة وطن بنضاله وكفاحه ومقاومة المحتل وصولاً إلى طرده. شاب أوجد من العدم وجوداً واحتل صوته وخطاباته العقول وسكنت في العيون، حتى أزهرت حرية وكرامة ووجوداً، فكان التحرير موعداً للحصاد على الرغم من الألم والوجع اللذين سبّبهما الغياب.

مثل اليوم، في الواحد والعشرين من تشرين الثاني 2006 وتحديداً عشية ذكرى الاستقلال، ترجّل ثلاثة مجهولين من سيّارة رباعية الدفع سوداء اللون في منطقة الجديدة في ضاحية بيروت الشمالية وأطلقوا رصاص غدرهم على شاب قيادي ينتمي بأفكاره وتطلعاته إلى أبناء جيل حوّل الخوف إلى إنتصار، كان في داخلها. في لحظة من الزمن، يُعلن عن الوزير بيار الجميل، شهيداً سادساً يسقط على طريق العبور إلى الدولة بعد الرئيس الشهيد رفيق الحريري والوزير باسل فليحان والصحافي سمير قصير و»أبو المقاومة» اللبنانية جورج حاوي والنائب الصحافي جبران تويني.

كان الشهيد بيار الجميل جزءاً من حكاية وطن يجتمع أبناؤه سرّاً وعلانية للبحث في خيارات للوصول إلى الحرية خلف راية وطنية واحدة تُظلّل الجميع. هو من جيل هتف للاستقلال وطالب باغلاق سجون الاعتقال والموت. واجهته آلات الحقد، فكان لها ندّاً لا يكلّ ولا يهدأ. تهديدات في السرّ والعلن ومحاولات لإقصائه وإيقاف حلمه، لكن نظرة منه في عيون الأجيال الواعدة والاطفال الذين كانوا يهتفون للحرية في الساحات، كانت أكثر من كافية لتجاوز العقبات والحواجز والإصرار على السير مع رفاق النضال من كتائبيين وحزبيين واستقلاليين لبنانيين، للوصول إلى ربيع العمر في السادس والعشرين من نيسان 2005 تاريخ انسحاب آخر جندي من جيش نظام الإجرام والتنكيل.

كان اغتياله جزءاً من اغتيال وطن، تماماً كما كانت ازاحته عن الخارطة السياسية مقدمة للاستيلاء على الوطن. كان ثابتاً صامداً مدافعاً عن الذين لا صوت لهم، ولهذا كان لا بد من تنفيذ حكم الاغتيال بحق هامات من هذا الوطن، وذلك ضمن مُخطط سياسي إقصائي، المُستهدف منه لبنان وقوى الاستقلال. شاب جاء من عنوان الغربة ليسعى مع الرفاق والأصحاب إلى بناء وطن جميل يكون على قدر آمال أبناء وطنه وتطلعاتهم. كان فرداً من صُنّاع الأحلام الجميلة، مارس قناعته وتطلعاته، فراح يزرع الأحلام والأمنيات بين أبناء جيله ويُحرضهم للخروج عن صمتهم وإطلاق صرخات الحرية. أراد لمّ شمل «الكتائب» وإعادة رصّ صفوفها وتنظيمها، فكانت القيامة بالجناحين الإسلامي والمسيحي.

يوم استشهاد بيار الجميل، كان الرئيس سعد الحريري مُكلّفاً بتشكيل حكومته، فكان أول من نعى صديقه خلال لقائه وفوداً في قصر «قريطم». يومها بكى الحريري بحرقة على صديقه ورفيقه في النضال، وبعد أن أعلم الحضور بالمصاب، اتّهم سوريا بالضلوع في الاغتيال. وقال «يريدون قتل كل لبناني حر. بدأوا مسلسل الاغتيالات الذي وعدوا به». أمّا رفاق بيار وأصدقاؤه، فيصفونه بالكتائبي الذي يُشبه العائلة بمفهوم جديد وبأنه كان قادراً على فتح الأبواب الموصدة، حيث كان يعتبر أن النقاش هو السبيل الوحيد لإقناع الآخرين، وبأن وجهات النظر تحتمل التغيير لكن مع الحفاظ على الأساسيات وعلى وطن واحد، محرّر مستقل، قادر على الوقوف في أسوأ الظروف، وأن يكون مُلكاً لكل أبنائه بكل أطيافهم وتلاوينهم، الحزبية والمذهبية.

في يوم الاستشهاد، خرجت الإستنكارات المنددة بالجريمة ووجّهت أصابع الإتهام إلى مجرم قاتل حقود، موصوف بجرائمه حتى يومنا هذا. مجلس الأمن الذي وصفها بـ «الإرهابية» وسُجل إجماع دولي ولبناني على المضي في اقرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان مع التحذير من انعكاسات الجريمة على السلم الأهلي وهو ما كان يسعى اليه القاتل، لكن مجدداً كان دم بيار أكبر من الفتنة وأحرص على الإستقرار الأمني في البلد، وبفضل الوعي المتميّز لدى قيادات تلك المرحلة وحكمتهم، ها هي المحكمة الدولية اليوم تقف على مسافة قريبة من القاتل لتنطق بالحكم النهائي.

بعد مرور كل تلك السنوات على الاغتيال، يُسجّل لوالد الشهيد الرئيس أمين الجميل الموقف المسؤول الذي اتخذه في ذلك اليوم، موقف لا يصدر إلا عن أمثاله في لحظة الشدائد. يومها طالب الرئيس الجميل بـ «ضبط النفس والتعالي على الاحقاد»، وهو الذي عرف في لحظتها أن نجله دفع ثمن وقوفه مع اللبنانيين الشرفاء في معركة الاستقلال الثاني وثمن استعادة لبنان لحزب «الكتائب» بعدما كانت أجهزة الوصاية تتلاعب بالحزب وبمصيره. ومع هذا، فقد علم الوالد المفجوع برحيل «الحلم»، أن بيار فعل الكثير قبل الرحيل وعمل على تعبيد الطريق نحو الآخر. كان يُدرك أنه إنتفض مع أبناء الخط الوطني ليصرخوا بأعلى صوتهم «لا». وإلى اليوم ما زالت جملته الشهيرة «يا حبيبي يا بيار»، يتردد صداها بين جيل هدم الجدار الذي فصل بين أبناء الوطن الواحد لعقود من الزمن وكسر حاجز الصمت وأيقظ الوعي والكلمة من سباتها وأخرجها من سجنها ليعود شعاع الحق والأمل إلى عيون الأطفال ولتستمر الأحلام في ملامح الأجيال القادمة، فيعودون ليرسموا أحلامهم وملامح وطنهم من جديد.
علي الحسيني - المستقبل

  • شارك الخبر