hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن عبّود

الحقيقة

الثلاثاء ١٥ تشرين الثاني ٢٠١٧ - 06:24

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

امسك سماعته ووضعها على صدري، راح يستمع الى قلبي، وقال بصوت جهوري ومتهدج، كما طبيبه تماما: "تنفس...تنفس... بعد". وضع سماعته جانبا. نظر في اذنيّ وفمي وعيناي، وقال :"اذناك مقفلتان وفمك ملتهب وعيناك حمراوان. وراح يخربش على قطعة ورق احرف لا تفهم. ناولني الورقة وقال: "الا فأمض الآن وابتع لنفسك دواء. ام اقول لك انا احضر لك الدواء وانت استلق الان لانّ حرارتك سترتفع".
تابع: "عيناك تقول بأنك تقيم في عراء الشمس، وبانك تكذب على ابيك. فمك يقول بأنك تأكل ترابا وتشرب مطرا وتعاقر ريحا. لقد خرج من فمك كلام كثير، والصراخ قد فعل فعله في اذنيك، فما عادت تعمل. عليك ان تتكلم اقل كي يصفو حلقك وتحاول ان تشغل اذنيك اكثر. ولا تبت الا في خيمتك حتى لو شعرت بأنها مترهلة. ولتعد عيناك الى وجهك".
وتابع: "ابلغني الى اين خرجت عيناك ولم تعودا بعد؟"
قلت : "بحثا عن الحقيقة وفي سبيل ما اعتقدت بانه حقيقة، نمت في العراء واكلت التراب وشربت المطر وعاقرت الريح".
وتابعت: "لذا، فلا تبهرك الاجسام والاحجام لانّ الفراغ مكونها الاساس في غالبية الاحيان.
لا تبهرك الالوان والاصوات، فالألوان من ذبذبات، وما يجعلها تختلف السرعة والكثافة ليس الا. نراها كما نتلقاها وليس كما هي حقا.
بريق الدنيا ذبذبات يا ولدي. وتصير الذبذبات دندنات ان ارتقت الى مراتب الانغام. الحقيقة هي ان تعرف بأنك لا تعرف. عواطفنا ووهمنا ومحدوديتنا يحجبون عنا الحقيقة، ويجعلوننا نعتقد بانّ ما نلتقطه من ترددات وذبذبات هو الحقيقة. فالحقيقة هي ان تعترف بمحدوديتك، وتروح تبحث عنها بكل ما اعطيت من احاسيس وعقل وتبصر. نعم الحقيقة هي ان تبحث في الصمت، وما بين الكلمات عن سحر الترددات. وان تحاول ان ترى وتسمع كي تدرك ما قد خفي عنك من امور".
وعندما سأل عن احمرار حلقي، قلت:
"احمرّ حلقي يا بني، واحمرّت عيناي لأني صنعت لي آلهة على هذه الارض من لحم ودم. فكل الاصنام محدودة ووهجها يسقط امام نور الحقيقة الذي لا يدنو منه مساء. سقطت، وأكلت التراب وشربت المطر. صنعت آلهة سلطتها على نفسي. وصرت أخدم ما لا اعرف. تحوّلت سهما في سوق البورصة. ومضيت ادمر الخيمة التي تحميني وتقيني شرور الدنيا وحرها وزمهريرها، فكان ان مرضت. ضربت ابي، وصرخت في وجهه وخونته. فصار جحيمي. هكذا احمرّ حلقي يا صغيري".
ثمّ تطلع بي وسأل عن انسداد اذنيّ، فأجبته: "لا يستطيع يا حبيبي من يقفل اذنيه، ويغمض عينيه، ويطلق لسانه للشتم ولفرض حقيقته ان يدرك الحقيقة. لا يستطيع من يتملكه الغضب، ويرى في جماعته كل الشعب وكل الصلاح، وفي غيره لا شيء وكل الفساد، ان يدرك الحقيقة. فالحقيقة لا تدرك بالصراخ، ولا يسوّق لها بالشغب والمؤامرات والانتفاضات والفتن. لا يمكنك ان تعرف كل شيء وليس كل شيء متاح. فتقبل. قل كلمتك، واعمل لما تراه حقا لكن لا تقل بانه الحقيقة. فالحقيقة هي ما وراء وبعد الكون.
يقول كاتب احب (تولستوي) "الصبر والوقت هما اقوى محاربين على الاطلاق". الا فأستخدمهما الى جانبك كي تدرك شيئا من الحقيقة. ولا تمرض كما مرض ابوك".
وتلوت عليه قصة صغيرة:
"كان في قديم الزمان عروس حلوة ارتدت الابيض، لكنها ارتبكت وهي تشرب النبيذ. فكان ان اوقعت نبيذ كأسها على ثوبها. فتلطخ الثوب بالاحمر. حزن عريسها لما رآها. وظنّ بها شرا. اغلق عينيه واذنيه، وقتل عروسه. ولمّا استفاق من سكرته، اكتشف الحقيقة وحزن لانّ كبرياءه جعله يغتال العروس والحقيقة. وكيف يعيش من يقتل شريكه ويجافي الحقيقة؟.
اتعلم الان لماذا انا مريض؟ انا مريض لأني قد جافيت الحقيقة فغاب عن وجهي الجمال، الجمال الذي قيل فيه بأنه سيخلص الكون. اعطيني الدواء يا ولدي علني استعيد بعضا من جمالي ونقاوتي. فأستعيد سلامي واصطلح مع ابي، فأرى فيه فردوسي. اعطني من دوائك يا ولدي علني استفيق من كبوتي، فلا اعود اصرخ واعتقد باني اخدم الحقيقة وانا اجافيها. اعطني من دوائك علني لا اعود اخدم من يتربص ببيتنا شرا".
اجابني: "حسنا لا تخف يا ابي. قم وامض الى ابيك. قل له بانك نادم وبانّ الحقيقة لا تمتلك. فيكتسي وجهك جمالا، ومن ثمّ اذهب وابحث عن الحقيقة".

  

  • شارك الخبر