hit counter script

الحدث - جمال مرعشلي

قيادة السنة: بدل من ضائع

الإثنين ١٥ تشرين الأول ٢٠١٧ - 06:10

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تتحكم أحداثُ لبنان وظروفُه بفتح ما يسمى "بيوتات سياسيّة" وإغلاق أخرى، فالظروف السياسية والاجتماعية والأمنية التي سبقت بروز اسم الرئيس رفيق الحريري، مهدت لتكريس زعامة لهذا الرجل "جرفت" البيوتات السياسية التقليدية، إلى درجة أن السياسي البيروتي المخضرم والمحترم جداَ محلياً وعربياً ودولياً سليم الحص لم يستطع الحصول على مقعد نيابي أمام "إعصار" رجل الأعمال القادم بتسوية لبنانية عربية- إقليمية- دولية. ولاستجلاء هذه الظروف ما علينا إلا العودة قليلاً إلى الوراء لنستطلع متغيرات متزامنة على الساحتين اللبنانية والإقليمية ساهمت في تراجع هيمنة الطائفتين السنية والمسيحية على الحياة السياسية والعامة في لبنان أمام الصعود الصاروخي للطائفة الشيعية المهمّشة تاريخياً، مستفيدة من ثلاثة عوامل رئيسية: ترحيل مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية إثر الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، قيام الجمهورية الإسلامية في إيران، وثالثاً قرار الجيش الإسرائيلي توسيع احتلاله مناطق لبنانية كانت تحت سيطرته منذ الاجتياح المصغر عام 1978.

ساهم خروج المقاتلين الفلسطينيين في إفقاد البنية العسكرية للطائفة السنية سندَها الأساس، في وقت كان لتأسيس الخميني جمهوريته الشيعية وسلوكه استراتيجية "تصدير الثورة" أثره الواضح في إنعاش شيعة لبنان، الذين نالوا حصة الأسد من هذا الدعم عسكرياً ومالياً، وليأتي الاحتلال الإسرائيلي أخيراً ليشرعن حق "حزب الله" في مقاومة الاحتلال باعتباره صاحب الأرض المحتلة وأولى الناس بهذه المقاومة.
اكتسبت حرب العصابات المظفّرة التي خاضها "حزب الله" ضد الاحتلال الإسرائيلي شعبية كبيرة رانت على كل ما رافقها من تجاوزات تمثلت بالقضاء على أي "آخَر مسلح" على أرض الجنوب ولو من أبنائه، مثل الحزب الشيوعي والحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب البعث العراقي والجماعة الإسلامية وجماعات كانت تسعى إلى المشاركة في قتال إسرائيل، وتركَّزَ جهد الحزب في هذا على توأمه "المذهبي" حركة أمل، التي بدأ حربه عليها في أيلول 1987 (من صور حتى إقليم التفاح وشرق صيدا وصولاً إلى ضاحية بيروت الجنوبية) واستمرت إلى نيسان 1988، موقعة في حالات كثيرة قتلى من عائلة واحدة كان أبناؤها ينتمون الى كلا الحزبين، وسقط في الضاحية وحدها حوالى خمسمئة قتيل، في حين بلغ مجمل عدد ضحايا صراع الطرفين في كل مناطق نفوذهما حوالى 2500 قتيل وخمسة آلاف جريح جلهم من حركة امل، لتتكشف مع كرور الأيام النية المبيتة والصارمة لدى الجماعة الإيرانية الصاعدة باحتكار الساحة الجنوبية لنفسها.
مع إنزال حركة "أمل"، بتنسيق مباشر مع النظام السوري وغض طرف من حزب الله، ضربة عسكرية قوية بحركة "المرابطون"، بحجة تعاملها مع ياسر عرفات، بدأت الخطوة الأولى في مسيرة الألف ميل لتبادل سنّة لبنان وشيعته ما يسمى "المظلومية"، التي كانت مع توالي الايام آخذةً في التوسع لدى الطرف الأول والتضاؤل لدى الثاني، على وقع أزيز السلاح وصدى العمليات ضد إسرائيل والشعبية المتصاعدة لحزب الله والنفخ الإعلامي بقدسية خائضي حرب تحرير الوطن، كما استَبدلت المناطق المحرومة الأدوار، فبات الجنوب اللبناني الذي كان محروماً من أبسط البنى التحتية من أكثر المناطق اللبنانية ازدهاراً، وباتت مناطق الشمال، وخصوصاً محافظة عكار، الأكثر حرماناً، كما لم يعد ثمة أي دور مؤثر يُذكر للطائفة السنية بعد أن بات قياديوها التقليديون بين سائر في "الخيار" الذي يرتئيه حاكم دمشق، أو ناءٍ بنفسه عنه، أو قتيل معارضته، من الشيخ حسن خالد إلى رفيق الحريري، ثم النقيب الألمعي وسام عيد، كاشف خيوط المؤامرة الكبرى وممهد الطريق أمام نطق المحكمة الدولية الخاصة بلبنان بتفاصيلها، إلى من أدخل لبنان عصر علم الاستخبارات الحديث اللواء وسام الحسن، والقاضي وليد عيدو... وغيرهم. وفي الزمن الضائع، ولتنفيس الاحتقان، كانت تبرز داخل الطائفة من وقت لآخر حركات مسلحة محلية صغيرة سرعان ما كانت تُقمع، مثل حركة التوحيد الإسلامي وحركة الشيخ أحمد الأسير.
انتظم اللبنانيون ولا يزالون عقداً اجتماعياً ينطق بحقيقة مرّة تقول بكل فجاجة إن بلدهم رقعة جغرافية تتناتشها الطوائف وزعاماتها والقانون بالتراضي، ولم يكن يوماً بلد الشعب الواحد والدولة الوطنية، كما تشهد بأن شدّ العصب المذهبي هو من يسيّر الجماهير وليس النداء الوطني. لقد كانت الفترة بين عامَي 1982 (الاجتياح) و1989 (اتفاق الطائف)، هي الفترة الذهبية أمام طوائف لبنان (أو "شعوبه" كما وصفها أحدهم صادقاً) لشد هذا العصب وبناء زعاماتها القوية وإنْ بالحديد والنار وأحداث أليمة وفاجعة، مثل مجازر صبرا وشاتيلا (1982)، وحرب الجبل بين الدروز والمسيحيين (1983)، وانتفاضة 6 شباط ضد الجيش اللبناني في بيروت الغربية (1984)، وقضاء حركة "أمل" الشيعية على حركة "المرابطون" السنية (1985)، وتفجير حركة "أمل" حرب المخيمات (1985)، وقيام حكومتين إثر انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، في بيروت الغربية برئاسة سليم الحص، وأخرى عسكرية في الشرقية بقيادة ميشال عون (1988)، وإعلان عون "حرب التحرير" ضد القوات السورية (1989) وما تلاه من قصف مدمر للحجر والبشر بين البيروتين، واغتيال الرئيس رينيه معوض (1989) بعد 54 يوماً من الطائف و36 يوماً من انتخابه، وتفجير ميشال عون "حرب الإلغاء" ضد القوات اللبنانية (1990)، واجتياج الجيش السوري رمز السيادة قصر بعبدا لإنهاء حالة عون ودفن الذائدين عنه من جنود الجيش في مقابر جماعية (1990).
لقد بنى الشيعة في تلك الفترة زعامة نبيه بري وحسن نصرالله، وبنى المسيحيون ميشال عون وسمير جعجع، ودعّم الدروز بنيان وليد جنبلاط وقووه، أما السنة فكانوا يعانون عقماً في القيادات القوية طوال تلك الفترة، ومتعطشين إليها تعطش الزهرة إلى الماء في النهار القائظ، فلما استقرت المعادلة العربية- الإقليمية- الدولية على اسم رفيق الحريري لفترة ما بعد الحرب، أحاط به السنة إحاطة السوار بالمعصم، آملين في السلم بتحصيل ما لم يستطيعوا تحصيله من حقوقهم بالحرب، فاستطاع للمرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث مصالحة السنة مع شعار الانتماء إلى لبنان بعد أن كان حكراً على المسيحيين، فنادوا متفاخرين بـ"لبنان أولاً"، كما التفّت نسبة معتبَرة من اللبنانيين حول شخصه حين رأوا في حكمه مشروعاً عابراً للطوائف، فبنى الرجل زعامة لم تُتَحْ لمَن قبلَه من الزعماء السنة، وعلاقات طيبة مع الفاعليات السياسية كافة، ومن ضمنها حزب الله.
إلا أن ما حدث صيف عام 2000 من انسحاب إسرائيلي من لبنان وكان يفترض أن يشكل بشرى مبهجة لـ"شعوب" لبنان، ما كان في الحقيقية إلا فاتحة لأحداث عاصفة ودراماتيكية داخلياً، إثر إصدار مجلس الأمن الدولي في أيلول 2004 القرار 1559 المُطالِب بانسحاب القوات السورية ونزع سلاح الميليشيات، ثم اغتيال الحريري في 14 شباط 2005 الذي اتَّهمت المحكمة الدولية سوريا وحزب الله بتنفيذه، ما زج لبنان في النفق المظلم.
ومع تسلّم سعد الحريري قيادة سفينة البلاد، لم يلبث بدوره أن كابد كيد المحور السوري - الإيراني، حتى وصل الأمر إلى إسقاط حكومته ثم مغادرته البلاد خوفاً على حياته 4 سنوات كاملة، فساد الساحة السنية من جديد ذلك الفراغ القيادي الذي تمخض عن تهديد كبير للحريرية السياسية، وحتى عندما عاد الحريري حاملاً إلى قصر بعبدا العماد ميشال عون، لم تكن عودته مبشرة لطائفته، التي لا يكنّ كثيرون فيها وداً لـ"حليف حزب الله" ويعتبرونه أحد صقور 8 آذار... فهل يكرر التاريخ نفسه ويأتي من يُطيح الحريرية السياسية كما اطاحت هي الزعامات التقليدية؟
ينبع شعور أبناء الطائفة السنية بالغبن من "صيف وشتاء تحت سقف واحد"، فسياسة "العصا الغليظة" مع فاعليات الطائفة السنية، وقد تكون محقة أحياناً، تقابلها سياسة "الكف اللين" المفتوحة، وبغير حق في رأي معظم أبناء الطائفة، مع حزب الله وترسانته العسكرية الضخمة والمتنقلة بلا رقيب داخل حدود الدولة وخارجها، فإذا كانت مداهمات التيار المتشدد داخل الطائفة السنية حقاً، فلمَ لا يعامَل بالمثل حزبٌ يستبيح الدستور وسيادة الدولة وحدودها وقرار الحرب والسلم ويهدد السلم الأهلي ويتعامل مع قوى أجنبية ضد أهل بلده ويستورد السلاح ويستعمله في الداخل؟
يروي أحد القيادات السنية بمرارة في مجالس خاصة كيف رد حزب الله على طلب الدولة حضور بعض مشايخه لسؤالهم عن اغتيال الحريري، بأن ذهاب هؤلاء غير مسموح به، وأن على الدولة إرسال أسئلتها مكتوبة إلى الحزب ثم انتظار أجوبتهم عليها مكتوبة أيضاً. ويقول قيادي آخر إن وصمة الاعتدال كانت وبالاً على الطائفة السنية، فهل معنى الاعتدال أن يكون "حيطي واطي"؟ كما يتساءل آخر لماذا تُحرم عكار من أبسط مقومات البنية التحتية مع بقاء صندوق المهجرين ومجلس الجنوب والإنفاق عليهما من خزينة الدولة في وقت لم يعد ثمة مهجرون في لبنان والجنوب يتمتع ببنية تحتية وفوقية أكثر من ممتازة؟ وكان مقتل الشيخين احمد عبد الواحد ومحمد حسين مرعب من الطائفة بإطلاق حاجز للجيش اللبناني في بلدة تل عباس بعكار النار عليهما، ثم الحكم على قاتليهما بـ"إساءة استعمال السلطة المعطاة على الحواجز الأمنية" وإسقاط دعوى الحق العام عنهم، الحجةَ الأقوى في يد مدّعي "مظلومية" أهل السنة، ليَظهر مذذاك في الطائفة تعطش قوي لسياسي "مرتفع الصوت" يشد العصب المذهبي، فانبرى لهذه المهمة ثلاثة: أشرف ريفي وخالد الضاهر ونجيب ميقاتي.
ارتفع عدد أنصار ريفي خلال غياب الحريري "الإرادي- القسري"، ولاسيما في الشمال، الذي عانت عاصمته من حروب مفتوحة (قيل إن عددها وصل إلى 19 حرباً) بين جبل محسن بزعامة الراحل علي عيد وولده الفارّ رفعت، المتهمَين من القضاء اللبناني بتفجير مسجدَي التقوى والسلام بالمصلين الآمنين، وبين أبناء طرابلس، التي أوصل أبناؤها ريفي إلى انتصار بلدي واضح أمام تحالف الحريري- ميقاتي القوي (وفي رأيٍ مراقبين أن نصر ريفي لا معنى حقيقياً له مع نسبة الـ25 في المئة الهزيلة من المصوتين، ما يعني أن أغلبية مجهولة التوجه قد تقلب المعادلات في الانتخابات النيابية، أو ربما تشهد الانتخابات النيابية المقبلة تقارباً أكبر بين ميقاتي والحريري بعد صفعة البلدية لقطع الطريق على ريفي، مع احتمال أن ينضم إليهما لاحقاً بقية أركان "الكارتيل" المالي الشمالي، مثل النائب محمد الصفدي وآل كرامي -فيصل وأحمد- ومحمد كبارة وغيرهم).
وإثر الانتصار البلدي، شعر ريفي، الرجل صاحب المواقف الصلبة في نهر البارد وفي قضية ميشال سماحة (ناقل المتفجرات من سوريا بغرض استهداف شخصيات لبنانية ورجال دين ومسلحين سوريين) التي كانت متجهة إلى التمييع تمهيداً لإطلاقه أو إصدار أحكام مخففة فيها، بأن ثقة الطرابلسيين قد تكون معياراً لثقة الطائفة كلاً، فتوجه إلى بلدات سنية في البقاعين الأوسط والغربي تُعتبَر خزاناً لتيار المستقبل (كامد اللوز والمرج ومجدل عنجر وسعدنايل) وارتفعت فيها صوره واستُقبل استقبالاً شعبياً، ثم إلى إقليم الخروب، وصولاً إلى "معقل المستقبل" صيدا، حيث ألقى كلمة في ذكرى اغتيال القضاة الأربعة خاطب فيها رفيق الحريري غامزاً من قناة سعد، بعدما كان صرح في وقت سابق بأن العلاقة معه مقطوعة ولا نية باستئنافها: «كم نحن بحاجة إليك ونحن نرى حجم ارتهان البعض للخارج، وبحث البعض الآخر عن السلطة بأي ثمن"... وكل ذلك تمهيداً للوصول إلى بيروت، التي –كما قال- لا تخلو من ناقمين على "انحرافات الحريري السياسية"، ثم أخيراً الى أم المؤسسات، البرلمان.
ولم يوفر ريفي في تحركاته الطائفة الدرزية، ففي عشاء تكريمي على شرفه في عاليه، وكان لافتاً جداً من حيث حضور وائل شهيب ابن الوزير أكرم شهيب، وحشد كبير من مشايخ الطائفة، سمع ريفي كلاماً من الشيخ علي زين الدين حمل رسائل متعددة، حيث قال: "أنت رجل ثابت والجميع يحترمك ومن لا يريد أن تكون إلى جانبه فهو لا يريد رجالاً حوله. كنا نتمنى أن تكون العبارة التي قالها عنك الشهيد رفيق الحريري محقاً باقيةً في أذهان الجميع، وهي أنك أشرف ضابط في قوى الأمن، ، فأنت حقاً أشرف ضابط في الدولة وفي السياسة". لكن جنبلاط ادعى بعدها، وإثر مكالمة عتب هاتفية من سعد الحريري، إلى إنكار معرفته بالعشاء، وأقال (في محاولة لعدم تخريب علاقته ببيت الوسط) منظِّمَه وكيل الداخلية في عاليه خضر الغضبان من الحزب التقدمي وقرّع النائب أكرم شهيب على إغفاله تصرف ولده في أمور حساسة كهذه. وإن كان ثمة مراقبون يعتقدون بأن جنبلاط كان على اطلاع كامل على العشاء، وأنه أراد من ورائه توجيه رسالة إلى الحريري مفادها أن البديل منه جاهز إذا لم يتحالف معه في الجبل في الانتخابات المقبلة.
ولكن... هل فات ريفي أن تأسيس زعامة وازنة يحتاج إلى موازنة مالية ضخمة تسكت الجائع المهمَل؟ وأن جماهير حزب الله لم تزخِّم المهرجانات وتبح الحناجر وترسل القبضات إلا بعد أن أمن لها الحزب عيشها الكريم؟ وأن نبيه بري زرع جيوش "بطالة مقنّعة" من أنصاره المتنفعين في إدارات الدولة حتى ضاقت بهم وأنّت الخزينة من أجورهم؟ وهل فاته أن الجماهير الشماليّة التي كانت العصب الأساس لانتفاضة 14 آذار وإخراج الجيش السوري من لبنان انفضت عن "تيار المستقبل" عندما لم تعد إمداداته المالية والتموينية تصل بانتظام، ثم انقطعت؟ فكيف ومن أين سيمول ريفي مشروعه لوراثة الزعامة الحريرية؟ وهل من دولة وازنة مستعدة لإمداده؟؟!!
أما ميقاتي، الذي كانت علاقته بالحريري توترت إثر قبوله خلافته في رئاسة الوزراء، فإنه استغل وجوده في الحكم 19 شهراً (استقال اعتراضاً على عدم تشكيل هيئة الإشراف على الانتخابات ورفض الحكومة التمديد لريفي على رأس قوى الأمن الداخلي على رغم تمديدها لقائد الجيش جان قهوجي ورئيس الأركان وليد سليمان) لإثبات نفسه قطباً لدى الطائفة السنية، ونجح شيئاً ما في طرابلس، فإن حيثيتيه المالية والخدماتية الضخمة تجعله منافساً جدياً في الشمال وعاصمته، لكنه في رأي محللين لن يتعداهما، نظراً إلى حيثيته السياسية التي تفرقه عن ريفي وضاهر، فهو يقارب موقف النقد للحريري من أبواب تختلف عن تلك الخاصة بالرجلين والعازفة باستمرار على وتر السلاح غير الشرعي وتجاوزات حزب الله داخلياً وخارجياً.
يحاول ميقاتي إلباس انتقاداته الحريري ثوبَ الحرص على منصب رئاسة الوزراء، فيصفه تارة بالمتنازل عن صلاحياته، وطوراً بأنه لا يعمل ما فيه الكفاية للأمور المصيرية، ولا موقف له من معارك حزب الله على السلسلة الشرقية، ومن ملف الكهرباء، وزيارات الوزراء الى سوريا، والانتخابات الفرعية، ويضرب مثالاً جبران باسيل الذي وضع مشاريع قوانين انتخاب في حين لم يتقدم الحريري بأي منها، كما يستغل حتى الأمور الشكلية للاشتباك الكلامي مع الحريري، وخصوصاً على "تويتر"، عندما أعلن عن "اشمئزازه" من شكر الحريري للرئيس عون استخلافه في ترؤس جلسة أيار في بعبدا، معتبراً أن الحريري يسيء بهذا الشكر إلى رئاسة الوزراء، باعتبار ما حدث أمراً دستورياً طبيعياً، وكذا سجاله مع النائب عقاب صقر رداً على اتهام الأخير حكومته بـ"حكومة حزب الله"، واعتباره عدم بحث الحكومة مشروع شركته لإنتاج الكهرباء في طرابلس ("الفيحاء") بكلفة أقل من البواخر كيدية انتخابية ومسايرة من الحريري لحلفائه العونيين، كما يستغل القضايا الكبرى للطعن بالحريري، مثل مسألة تنحية القاضي شكري صادر عن رئاسة مجلس شورى الدولة، محولاً إياها في مواقع التواصل الاجتماعي قضية رأي عام.
وتبقى علاقة الحريري بميقاتي ضبابية، فعلى رغم أن "المستقبل" نظم لقاءات تقارب مع فاعليات الطائفة السنية، وحتى مع اطراف 8 آذار منها، مثل عبد الرحيم مراد وفيصل كرامي ووجيه البعريني، إلا أن الأجندة لم تشمل الرئيس ميقاتي.
يأخذ معارضو الحريري عليه تقديم التنازلات باستمرار، فبدل قيادته جهداً عربياً ودولياً لفضح اعتداءات حزب الله في 7 أيار، حملته هذه الاعتداءات وجنبلاط إلى المتهمة بقتل والديهما، دمشق (وكانت زيارة ثانية للحريري إلى عاصمة الأمويين للشكوى للأسد عرقلة وزراء 8 آذار عمل حكومته). ومن المآخذ تسليمه خاسرَ الانتخابات (فريق 8 آذار) على طبق من ذهب الثلثَ الضامن الذي أسقط حكومته، وإبعاد نفسه طويلاً عن الساحة، وتأمينه دخول ميشال عون قصر بعبدا دخول الأبطال (بتصويت 110 نواب)، بعدما كان (الحريري) شكَّل إثر فشله في استيعاب "تسونامي" عون العائد من منفاه الباريسي، التحالفَ الرباعي مع الثنائي الشيعي والحزب التقدمي الاشتراكي لتطويقه، ليفاجأ بسبق حزب الله إليه موقّعاً تفاهم مار مخايل، وتاركاً الحريري في مواجهة جماهير متسائلة عن المنفعة من وضع اليد في يد المتهمين بقتل رئيس وزراء لبنان.
أما النائب خالد الضاهر، الذي حصد معظم المجالس البلدية في عكار وشكل مع ريفي المفصولَين من تيار المستقبل، إعصاراً في وجه هذا التيار، فقال إن الأمر هو عقاب من الشارع السني لتيار حاول الغاء مَن خاطر بدمائه لحماية لبنان، ويقصد نفسه وريفي، مؤكداً أن ما يسعى إليه هو الكرامة التي فقدها الشارع السني نتيجة تقديم التنازلات وإبرام المساومات.
لقد ظل السنة على الدوام مضبطة اتهام، فاتهمهم اليمين المسيحي قبل الحرب الأهلية بموالاة الفلسطينيين، وكذا فعلت القوى الموالية لسوريا بعدها، واتهمتهم قوى اليسار بموالاة المارونية السياسية لاقتسام سلطات البلاد، وحزب الله يتهمهم بموالاة السعودية والأميركيين، كما يعتبر النظام السوري أن قوة سنة لبنان تمد سنة سوريا بالقوة، والعكس صحيح، لذلك عمل دائماً على إخراجهم خالي الوفاض من كل المعادلات السياسية وتحويلهم الحلقة الأضعف، على رغم أنهم أكثر الطوائف عدداً في لبنان حالياً (نسبه إلى أعدادهم في لوائح الشطب، وهو 26.9 في المئة، وليس إلى تعداد سكاني لم يُجرَ منذ زمن بعيد).

  • شارك الخبر