hit counter script

مقالات مختارة - حسن شامي

عن الاستفتاءين الكردي والكتالوني وما بينهما

الأحد ١٥ تشرين الأول ٢٠١٧ - 07:29

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

الحياة

في وقت واحد تقريباً جرى استفتاءان من أجل الاستقلال القومي والانفصال عن دولة مركزية. حصل الأول في كردستان العراق والثاني في كتالونيا الإسبانية. تزامن الاستفتاءين استوقف العديد من المتابعين والمراقبين وحض العديد من الكتاب والمعلقين، خصوصاً في العالم العربي والإــسلامي، على المقارنة بين الحدثين. ويبــدو بديـــهـياً أن هـذا التزامن، في ما يخـص التــوقيت والجانـب الإجــرائي في الأقل، هو محض مصادفة. ما ليس مصادفة هو إفصاح كلا الاستفتاءين عن وجود مسألة قومية باتت تحتاج إلى حل شاف بالنظر إلى اكتسابها بعداً وجودياً حاداً في وعي ووجدان أصحابها وحاملي رايتها. الفوارق بين الحالتين كثيرة وكبيرة. فالمدار الذي تقع وتدور فيه المسألة الكردية، أي ما يعرف اصطلاحاً بالشرق الأوسط، بات مسرحاً لازدهار الهويات ما قبل وما بعد الوطنية ومختلف أنواع العصبيات المثقلة بسرديات المظلومية وبجروح ورضوض ماض لا يمضي. وهذا ما لا ينطبق، بطبيعة الحال، على المدار الإسباني، والأوروبي استطراداً، للمسألة الكتالونية.
السياق التاريخي والسياسي لإجراء الاستفتاء والتعامل معه، أي مع التحديات التي يحملها والمضاعفات التي تترتب عليه، هو أيضاً يختلف كثيراً من حالة إلى حالة. فالاستفتاء الكردي جرى في مناخ ومنطقة ملتهبين يتسمان بتصدّع الأطر الوطنية الموروثة عن حقبة الدول الوطنية الناشئة في أعقاب الحرب الثانية وفق ترسيمة ضعيفة الثبات، خصوصاً في المشرق العربي، للحدود التي قررتها القوى الاستعمارية في نهاية الحرب الأولى بما في ذلك حدود سايكس- بيكو العتيدة. أما الاستفتاء الكتالوني فحصل في ظل دولة مستقرة على درجة متقدمة من الديموقراطية يتمتع فيها الكتالونيون بنصيب معتبر من الإدارة والحكم الذاتيين. وهذا لا يمنع من أن يكون الإقليم الكتالوني صاحب مواصفات إتنية ولغوية وثقافية تخوله أن يكون دولة- أمة وأن يحمل ويتناقل ذكريات رضوض وجروح تعود إلى زمن الحرب الأهلية الإسبانية وانتصار الجنرال فرانكو. يُخشى من أن يرتسم القمع البوليسي الذي أقدمت عليه الحكومة المركزية وقوات الشرطة لمنع الاستفتاء ومصادرة صناديق الاقتراع، إضافة إلى السجال العالي النبرة حول شرعيته بين ملك إسبانيا فيليبي السادس ورئيس الإقليم الكتالوني، كمادة لتغذية النزاع وتقليل حظوظ الحل من طريق التفاوض والحوار.
مع أن الاختلافات كبيرة بين الحالتين فإننا لا نعدم العثور على وجه مشترك وعريض، بل عريض جداً. هذا الوجه يتعلق بيقظة الهويات الفرعية، العرقية والمذهبية والجهوية والطائفية، في الدول الوطنية ورفعها إلى مصاف عصبية قومية كامنة ترتسم كملاذ جامع ومفعم بالتضامن والالتحام وينتظر التحقق القدري بهذه الطريقة أم تلك. لا حاجة للعودة إلى الحديث عن دور العولمة وفقاعاتها التكنولوجية والمالية والإيديولوجية في إيقاظ الهويات المترسبة في قيعان الدول الوطنية. لقد قيل ما يكفي عن وجهي العولمة المتناقضين: التقدم والمرونة الفائقة من فوق، والنكوص الرجعي والتخشب من تحت. ما يعنينا أكثر هو ارتسام العولمة كقوة قدرية يشعر الكثيرون حيالها بالعجز وقلة الحيلة والحول مما يدفع إلى الانكفاء على الوحدات الاجتماعية والثقافية الضامنة لقدر من التماسك والتعاطف. وهذا ما يفسّر ازدهار أشكال التديّن والاعتقاد الخلاصي بهذه اللحمة أو تلك. وهذه مفارقة كبرى يتخبط في مفاعيلها العالم كله وإن بمقادير ودرجات متفاوتة.
لنقل إذن إن وجود الديموقراطية أو عدم وجودها ليس عاملاً حاسماً في صحوة الهويات القومية أو اللغوية أو المذهبية. يبقى أن حظوظ الحل بكلفة أقل تبدو في النظم الديموقراطية أكبر منها في النظم السلطوية أو السلطانية. لكن المشكلة في العمق هي نفسها. إنها العودة إلى تعريفات واختبارات القرن التاسع عشر الذي نحسبه وراءنا فيما تتلجلج أصداؤه في صدورنا ويهزّ الأرض هزاً عنيفاً تحت أقدامنا. وليس الحذر الأوروبي الشديد في التعامل مع الاستفتاء الكتالوني سوى التعبير عن الخشية من انتشار العدوى الانفصالية إلى دول أوروبية أخرى مثل فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا وهولندا. فهذه الدول تضم كتلاً سكانية أقلوية ذات هويات لغوية وثقافية وإتنية مختلفة كان من المفترض أن تذوب خصوصياتها في المصهر الوطني الحاضن للتعددية واللامركزية والمساواة الحقوقية بين سائر المكونات.
فلنطرح السؤال الصعب حول محددات الدلالة الكبرى للاستفتاء الكردي تحديداً: هل هو في السياق أم في الحق المبدئي في تقرير المصير أياً كانت الظروف؟. والحال أن النقاش حول هذا السؤال لا نهاية له. هناك على أي حال مسألة كردية لا يمكن أي سياسة عاقلة وراشدة أن تتغاضى عنها. قد يكون صحيحاً أن توقيت الاستفتاء جاء وفق حسابات سلطوية وغير ديموقراطية لدى مسعود البارزاني المتشبث بالسلطة، مثل جيرانه وخصومه في المنطقة، وأنه وثيق الصلة بالنزاعات بين القوى الكردية وحساباتها. غير أن هذا لا يجيز اختزال المسألة الكردية إلى لعبة مصالح فئوية. وعلى النحو ذاته ليس من الإنصاف اختزال المسألة إلى «مؤامرة» ولعبة إسرائيلية يستدل عليها من رفع أعلام إسرائيلية ابتهاجاً بالاستفتاء الواعد. حول هذه النقطة كان لافتاً أن يشدد الرئيس التركي خلال زيارته الأخيرة لطهران، وللمرة الثالثة، على عدم شرعية الاستفتاء لأن الدولة الوحيدة التي أيدته هي إسرائيل، حتى أنه اعتبر أن جهاز الموساد تولى تنظيم الاستفتاء ورعايته. بهذا الكلام التحريضي كان أردوغان يخاطب الوجدان العربي والإسلامي والتعاطف الكردي مع الفلسطينيين للتشكيك في الشرعية السياسية والأخلاقية لدعاة الاستقلال الكردي.
إذا كان صحيحاً أن الاجتياح الأميركي للعراق وإسقاط نظام صدام حسين أتاح للأكراد أن يتمتعوا بحكم ذاتي أفضل من السابق، وأن المحنة السورية أسفرت عن بزوغ الكرد كفاعل سياسي أكثر تجانساً وتماسكاً من القوى الأخرى، فإن هذا يفترض أن يتفطن الأكراد إلى تعقيدات الوضع وإلى أن التعامل معه على قاعدة «رب ضارة نافعة» ينطوي على مجازفة إحكام العداء مع المحيط. نعلم أن ذاكرة المعاناة والاضطهاد والجروح تبقى أقوى حضوراً في الوعي الجمعي من لحظات الفرح والابتهاج. وسردية المظلومية الكردية مثل شقيقاتها لا تشذ عن القاعدة هذه. ولا يفيد في هذا الإطار تقديم محاكمة جاهزة للعروبة وللسلطانية التركية وسواها وتبرير التمدد الإسرائيلي. فالتاريخ أكثر تعقيداً كيفما أدرناه.

  • شارك الخبر