hit counter script

مقالات مختارة - نسيم الخوري - الخليج

أوّل الغيث

الثلاثاء ١٥ تشرين الأول ٢٠١٧ - 10:08

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تخفي استراتيجيّات الإنتاج والاستهلاك مجموعات هائلة من أسباب التفاعل والتأثّر والاقتداء والتحوّل والتغيير وتغيير القناعات والتنافس وعدم التوازن والتحدّي والاستبداد الخفي، بل المعلن بين الشعوب والحضارات. هذه مسألة لم تكن تطرح بهذا الإلحاح قبل عصر العولمة. صحيح أنّ الوجه الطاغي والقديم لهذه العلاقات هو اقتصادي مصلحي محض يكاد يفرّق الشعوب والدول إلى صنفين: منتجة ومستهلكة، إلاّ أنّ طاقات الإنتاج والإبداع والتطوير تكاد تصبح ذات هويّة عالمية متشابكة بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب، بما يخرجها من هويّاتها الوطنيّة الجغرافية الضيّقة إلى مستويات حديثة معقّدة ومساحات واسعة في تجديد العلاقات الدوليّة. وعندما تتصفّى الجذور والترسّبات في ما يتجاوز الاقتصاد وحركة الأسواق المتشابهة في العالم نجد أنفسنا مجدّداً أمام إشكاليات جديدة ومعقّدة أيضاً بحثاً عن تعريف الحضارات أو فهمها بكونها واحدة عالميّة أو متعدّدة.
أطرح هذه المسألة وتشدّني الشاشة إلى أمرين:

1- الأوّل إعلان ملك السعودية ليلة الثلاثاء 25 أيلول /سبتمبر2017 السماح للمرأة بقيادة السيّارة. هذا قرار عظيم لم نتصوّره سيصل في هذا الوقت وكأنّه أوّل الغيث في هندسة المستقبل.

2- صحيح أنّه انتصار عظيم كما علّقت عليه وسائل الإعلام العالمية بكونه الحدث. لكن لنتذكّر أنّ ولي العهد الشاب كان قد مهّد له قبل نصف سنة، إذ كان يقفز بدولته ليعلن رؤية ال «2030»، معتبراً «المرأة نصف المجتمع، وهو شعار طبيعي ومحقق في العالم كلّه، لا بدّ لها أن تكون فعّالة ومنتجة.. وقيادتها للسيّارة ليست دينية بقدر ما لها علاقة بقبول المجتمع أو رفضه.. لا نفرض عليه شيء لا يريده، لكنّ المستقبل تحدث فيه متغيّرات، نتمناها أن تأتي دوماً إيجابيّة..». يومها علّق صديقي البروفيسور والعالم البيولوجي الدكتور طلال يونس بقوله: هذا أوّل الغيث...

صحيح أنّ المستقبل يحمل المتغيرات، وهذا يعني بأنّ التطوير والنهوض أصبحا خياراً استراتيجياً للانخراط في عصر الحداثة اقتصادياً واجتماعياً ووطنياً. وهذا يعني أيضاً استئناف الاندماج العظيم الحاصل بين أبناء الثقافات والشعوب المتنوّعة، والتي تضمّها الأنظمة الديمقراطية والفدرالية وغيرها، إذ ينصبّ الانتماء على الانخراط في دورة الحياة إنتاجاً واستهلاكاً يظلّلها الاحترام الهائل للحقوق والواجبات والعمل الدائم إلى تحقيق العدالة والاستقرار بين المواطنين. وفي المجال، نصادف دولاً وأمماً أخرجتها قساوة الطبيعة (التي لوّحت بالفردوس ليملأ الخيال) والظروف التاريخية لأسباب غامضة من أعباء الإنتاج أو الانخراط في دوراته إبداعاً وتطويراً لأنّ الأقدار حبتها قوّة وحضوراً أرضيّاً وسماوياً هو على ارتباط بالصدفة أو الاختيار الذي يغيّر أحياناً وجه التاريخ.

وأفكّر أيضاً بمستقبل العلاقات الدولية عندما أرى تحديداً في المنطقة العربيّة، وعلى سبيل المثال، أنّ سودانياً من ثلاثة أو سوريّاً أو لبنانيّاً ومصريّاً أو عراقياً أو ليبياً أصبح خارج بلده مؤقتاً و/أو نهائيّاً، والأمر قد ينسحب على الكثير من أبناء الدول العربيّة والعالمية التي صارت طاقاتهم الشبابية خارج أرضهم. الأرض لساكنيها. ينقسمون بين عشق الغرب وتقديسه أونبذه وكرهه أو التوفيق بين الوجهتين بهدف السلامة والعيش والاستقرار. يقوى هذا التفكير لمن يتابع بدقّة تلك الأجيال المتنوّعة المستويات والمواقع التي تشغل أرصفة العالم كما تشغل أعلى درجات سلّم المسؤولية فيه بعدما أدارت ظهرها لأرضها وأوطانها الضيّقة بالحريّة منذ فجر التاريخ وصولاً إلى موروثات «الربيع العربي» السلبيّة التي شوّهت المشهد وكأنّه ملبّد فقط بالنازحين واللاجئين والمهاجرين وبالإرهاب في زمنٍ قصير لا يتجاوز السبع سنوات.
نخرج من هذه المشاهد المتناقضة بسلبيّاتها وإيجابيّاتها، إلى الافتراض بأنّ العرب واقعون تاريخيّاً في دوائر المجتمعات الاستهلاكية الموفورة أو«الإهلاكية» بالمعنى الحضاري العام، وطبيعي أن تتقدّم حقّوق الكسل والاستهلاك على حقوق العمل والإنتاج والإبداع. هي فكرة ترشدنا إلى إشكاليّات حضارية عميقة تقع في الصورة النمطيّة للعلاقات مع دول العالم في الشرق والغرب بشكلٍ عام، وتطرح السؤال الكبير: ما العمل لإخراج هذه المساحات من مرمى ألفة نيران الحروب المقيمة فيها جيلاً إثر جيل؟
إنّها قضيّة تدفعنا، وبشجاعةٍ مطلقة، للتفكير بإعادة النظر الشاملة، بمجمل القيم والمفاهيم والنظم السائدة، ومحاولة كشف الأغطية عن الأسس الفكرية التي«تستمدّ» منها هذه المجتمعات مواقعها وتطوّرها وديمومتها بين الأمم.

إنّ حوار الشرق والغرب، والشمال والجنوب، كما الحوار بين الأديان وتحديداً الحوار الإسلامي - المسيحي، وحوار أهل الإنتاج والاستهلاك، كلّها محاولات وأشكال تعكس مآزم هائلة وحروب متشابهة تتراكم في معضلات بذرة الحوار الأصغر أعني العلاقة بين الواحد والآخر، مهما كان حجم تلك البذرة، فرداً، جماعةً، دولةً أو أمّة. هذه الأنواع من الحوارات قد تستبدّ بها نماذج التعارف والتواصل والاختلاط والتنابذ والتقسيم والإلغاء في حدودٍ متفاوتة فلا تقدّم الكثير من التفاعلات والمتغيّرات والأفكار الجديدة التي تميّز على الأقلّ، بين تحديث المجتمعات بالمنتوجات المعاصرة وحضارة الانبهار الشكلي بالعالم الذي صار شكلاً أيضاً.
من يرشدني إلى مضامين الحضارات وأنساق القيم وأين هي؟ كلّنا
مستغرقون في الأشكال.

لا تعني الحضارة قطعاً القبض على ما أنتجته البشرية بقدر القبض على المستقبل وخوض غمار الحضارة العالمية الضبابية التي تخصّ دول العالم وشعوبه كلّها. الكل باحث عن تعريفات لها جديدة، وأعتقد أنّنا كعرب ومسلمين أصحاب حضور فيها منذ القرن الرابع عشر الذي كان مغموراً بالانحطاط لتنقلب الآية في عصر التنوير في القرن الثامن عشر. نحن في القرن ال21 الذي يشرّع أبوابه ونوافذه لطاقات العالم الشبابية القادرة على الانطلاق والنهوض و«الاستئناف» الحضاري من جديد على حدّ قول صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله.

نسيم الخوري - الخليج

  • شارك الخبر