hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن ح. عبّود

الجبال

الثلاثاء ١٥ أيلول ٢٠١٧ - 06:22

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

حملت ولدي ومضيت واياه الى الجبال، الى حيث كان جدي يحملني في كل مرة كي يريني العالم ويستكين. حملته الى حيث عمي أسلم روحه. حملته الى الخدود والمغاور والوعر حيث عطر من احببت، الى حيث يقيم الحجل والنسر واولاد آوى. حملته الى حيث تخرج الاساطير من بطن الأرض قصصا كانت تتلوها على مسامعي جدتي في ازمنة البرد والشتاء.

انتصبت واياه هناك لوحدنا وسجدنا لرب الجبال والقمم والوديان بصمت. تلوت على مسامعه مزمور الغروب. واريته كيف استعاد الوعر كرومه، وكيف زال الزرع عن وجه الارض. حذرته من سطوة المدائن. ابلغته انّ للمدائن انياب تلتهم البشر.
نظرت في عينيه الكبيرتين كبر المحبة، وقلت: "تزحف المدائن وتلتهم خصوصية الجماعات والأرض والبشر. كانت الدنيا وكنّا بألف خير لما كانت المدائن تعيش بسلام مع الضيع والارياف. كنّا بخير الى ان اوجد الساحر المصانع وحوّل المدائن الى وحش يلتهم البشر. فصارت الجبال مستوطنات مقالع وكسارات، ومستودعات للحجر.
اتشعر بالنسائم يا حبيبي تدغدغ وجهك؟ اتشعر بها قادمة من فوق محملة بأشواق الجبال ورائحة الزوفى وأنغام الشجر؟ انها نفسها التي كانت تحمل شعر جدتي الأبيض المسدول على كتفها. انها ريح الخريف التي تأتي كي تبلغك بانّ الشتاء قد اضحى على الابواب، وبانّ فاكهة الجبال تحمرت وجنتيها وسقط بعضها خجلا على اقدام الأمهات. انها الريح التي تقيمك وتحييك إذا ما شعرت بأنّ في الأرض ظلام وبشاعة وحقد وقلق وخوف وقرف.
سرّ بالنسائم لكنه اضطرب اذ علم بانّ الخريف صار قريبا، فسأل: " لماذا يأتي الخريف؟ لما لا نعيش في ربيع ام في صيف دائم؟ ولماذا تتبدل الفصول؟".
اجبت: "نعيش صيفا دائما يا ولدي ان حملنا الصيف في قلوبنا. نعيش ربيعا دائما ان اقام الربيع فينا. تتبدل الفصول ونبقى نزهر في ربيع او صيف دائم. فالمهم ان تدخل الطبيعة الينا، فنصير نستمع ونعزف معزوفة الفصول الأربعة لفيفالدي كل عمرنا. تتبدل الفصول يا ولدي كي تبلغنا بانّ الغم لا يبقى. مغبوط هو من يشتم في الشتاء رائحة الربيع، وفي الربيع نكهة الصيف. مغبوط من يدرك لذة الفصول ويعرف كيف يجعلها تقيم في نفسه. كي تدرك لذة الفصول عليك ان تعيش قصة الأرض، فتحزن معها وتفرح لها، فتحملك هي وتصير معلمتك.
كان لنا حضارة، وكانت حضارتنا بلون الأرض، وكنا نقتات منها خيرات السماوات. كنا نزرع بالدموع ونحصد بالشكر والتسابيح. كان جداك وكانت البركة والكروم. وقد كانوا يزرعون وما زلنا نأكل ممن زرعوا. انظر الى هذه الهضاب والتجاويف. انظر الى هذه الجبال التي تمسي خطوطا في الأفق البعيد تلامس المنتهى. انظر الى القمم كيف تنتصب وكيف تثقب رؤوسها زرقة السماء. هناك اشتهي ان أكون يا ولدي حيث هم. تذكر بأنّ في لا مكان قريب او بعيد تقيم أرواح من أحبوا هذه الأرض. تذكر بانّ ارواحهم تنزل من فوق علينا نسائم تترطب بندى الوديان وتتلون بشذا الوهاد والمغاور. تستعيد الجبال أهلها يا ولدي. تستعيد الجبال من تلونوا بألوانها ومن سطرت على وجوههم قصصها. اما المدائن فتلتهم البشر. تلتهم المدائن الضيع. تلتهم المدائن كل شيء.
انّ المدائن يا ولدي بناة العولمة المتوحشة التي تخرج الناس من ضيعهم وتوقعهم في فخاخ الوهم والفقر والعوز. تدخلهم ممالك الطموح الكاسر والرغبة العارمة والعطش الى المال. تخرجهم من ذواتهم. تخرج عيونهم من فلكها ولا تعود تعرف كيف تعود الى احواضها. تقع العيون وتروح تبحث عما لغيرها. تدخلهم ممالك الظلم والفقر وال"لا مساواة"، فتتولد المرارة ومن المرارة يولد وحش لا يعود يستكين. تدخلهم ممالكها وتقهقرهم وتعريهم وترميهم هنا وهناك فتصير السيول تحملهم الى بحار واراض غريبة. يصيرون جزءا من ازمة العولمة، ولا يعودون بركة الارض والحل. تنتهي الأوطان عندما تتسطح وتفرغ وتيبس وتنتهي الأرياف. يتسطح الوطن عندما تكشر المدن عن انيابها وتنشر اسمنتها في سهول القمح ووهاد العطر وجبال العز.
اعمل يا ولدي كي تصون شرفك وارضك واهلك والجبال. ناضل يا ولدي كي يبقى لكم مطارح تسكنها الشمس والريح والثلج والغابات. صل واعمل يا بني كي يبقى لكم بلدة وقرية وريفا وضيعة وايمانا وانماط عيش واخلاق وعطرا وامنيات. قاوم ولا تدع انياب الوحش تلتهم كل الإرث والحضارة والنسمات. وتذكر ان تناجي روح العالم وكل الأرواح إذا ما أدركت في سر صمتك كل هذه الجمالات. تكلم معي حينها فانصت اليك بعد عبور، وانظر اليك في دنياك بغبطة وحبور، وأرسل لك مع من سبقوني من دنيا الرقاد اشواقا من نسائم وقبلا من بخور".
امتزج صوتي بنغم النسائم تعزف في جوف المغاور. وابني كان ينظر ويسجل في رأسه أصوات الريح. ربما علق في رأسه بعض مما قلت، لكنّ الأهم بانّ رائحة العطر وسحر الصمت وهيبة الجبال حتما ملأت نفسه وسجلت في سجلها افضل النغمات والذكريات.
 

  • شارك الخبر