hit counter script
شريط الأحداث

باقلامهم - مازن ح. عبّود

القائد

الثلاثاء ١٥ آب ٢٠١٧ - 06:13

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

قال لي: "ابي ما هي الحياة؟"، اجبته: "الحياة ان تحب وتحب، فتخربش على صفحات القلوب نقوشا ونكهات والوان وومضات تغني. الحياة ان تعطي وتخدم يا صغيري. فتعيش ابدا في افئدة الناس قصة، وفي ذاكرتهم فكرة. فيقولون عنك بانك حيّ ولو انك تحت التراب. هي ان تسجل على الجبين وقفات من نور وفي القلوب نسمات يطرب لها البشر. الحياة هي ان تعيش اللحظة وتدوس على الامس كي تبصر الغد. الحياة هي ان تعرف بأنك لست الدنيا بل انك خادم في هذا الكون. تخدم وتهلل. الحياة يا صغيري هي ان تنشد للشمس والحرية. هي ببساطة ان تحيا في المحبة والنور، فتكون في سلام وربيع دائم، وتعطي سلاما أعطيت ولا يسرق منك ابدا. فيرى الناس فيك ومضة من ومضات الحياة. الحياة هي ان تعيش في القلب فتصير قلبا ينبض بالحياة".

استكان وسأل عن ماهية القلب ووظفيته. فأجبته بانّ "القلب هو الانسان. وابلغته بأنّ القائد قلب يتحسس من حوله. والقلب ينبض ويستمع، يخدم ويغسل الدماء ويضخها نقية فتحمل الاغذية الى سائر الاعضاء. القلب يستشير ويستشار".
فسألني "لماذا القائد هو قلب يا بابا؟". اجبته لانه يحكم بقلبه.
ثمّ اراد ان يعرف اكثر عن القائد والقيادة. فأبلغته بأنّ "صولجان القائد هيبة وحكمة ورؤيا، وعكازه محبة وخدمة. سلطته لا تستمد من دساتير واعراف ونصوص بل من ميراث وقصص حياة. القائد قلب الناس الذي يحمل خوفهم واحباطهم وآمالهم، وينسج لهم غدا من رجاء. يسير واياهم الى القمة.
على قدر قضايا الناس واوجاعهم وازماتهم يأتي القادة. فالأزمات مقلع القادة. يرسل لهم الرب قادة كي يفتقدهم ويبلغهم بانّ لأحزانهم وكبوتهم نهاية.
والقيادة يا ولدي هي فن الاستماع الى همسات الخالق تتلوها افواه البشر، وترددها اصداء العناصر على الارض. أفرغ نفسك يا بنيّ كي يجد الله فيك له مطرحا. أفرغ نفسك يا ولدي كي تسكنك روح الكون فتصير وديعة. أفرغ نفسك ولو قليلا كي يصير لبذار السماء في تربة نفسك مطارحا.
لكن احذر يا ولدي، فالقيادة هيبة وشورى. وهي حتما بذرة فوق التي ترمى كي تنمو وتفتقدك وتفتقد اخوتك. تبزغ وتنمو وتكبر وتنضج. فتشع انوارا. لا تنمو بذرة القيادة في ارض اشواك تغيب عنها انوار الكون.
القائد يا ولدي يعطي الناس سلاما، ويشع على من حوله طمأنينة ورجاء. ان تكون قائدا يعني ان تكون أبا لعائلات كثيرة. فيشعر بك من حولك. ويفرحون بوجودك. وتصير لهم ضمانة. لا يستعمل القائد الناس ويجعل منهم سلالما الى فوق بل انه سلمهم وخشبة خلاصهم. قلة القادة الذين يكبرون في القامة، وكثر الحكّام الذين يستعينون بنعال الألقاب والمواقع كي يزيدوا على قاماتهم شبرا او اشبارا.
الفرق ما بين القائد والحاكم هو انّ الأول يبقى يشبه نفسه حتى عندما يدخل الى خدره، ويخلد مستسلما للنوم. يبقى فقيرا الى ربه يشبه رعيته في كل الأحوال والظروف والأماكن. اما الثاني فيدخل الى خدره كي ينام، فيكتشف صغر قامته. يكتشف كم هو صغير بلا نعال الألقاب والصلاحيات. يحزن حزنا كبيرا. ولا ينام الا ممسكا بالنعال.
لكن انتبه يا ولدي، فالقامة لا تقاس بعدد السنتيمترات! قامة المرء هالة قلبه. والقلب الجيد هو ذاك القادر على تحسس آلام الاخرين، والتمييز ما بين الصالح والطالح من معطيات وتحليلها على انوار المحبة برفق وصبر وحكمة ووداعة. وضوح الرؤيا نافذة القائد على الاخرين. والقائد يعرف بشجاعته وقدرته على اتخاذ القرارات الصعبة والموجعة والضرورية والملحة.
يحمل القائد هموم الناس وتطلعاتهم ويمشي واياهم الى القمة. اما المتسلطون فيتسلطون باوهام وضعفات البشر يدوسون الرؤوس، مستخدمين الدساتير والانظمة، ويروحون يرجمون الناس من عليائهم بالحجارة والاوهام والمخاوف. مملكتهم من خوف واحباط وفشل. لا تحزن يا ولدي إذا ما اسوّدت الدنيا من حولك. ففي اللعنات تكثر البركات، كما قال لي شيخ مرة".
كان يستمع اليّ، لكني لا اعرف إذا ما كان يعي معاني كل ما كنت أقوله. كان مهتما وذلك بالرغم من سنيه القليلة. تموّجت عيناه وبرقتا في محيطهما الابيضين الكبيرين.
وصار ابني مهتما بقياس قامات الناس، ولم يوفق الى ذلك سبيلا. عاد اليّ مستفسرا عن الموضوع، فأبلغته بانّ القامات تقاس بدرجة السلام والارتياح والطمأنينة التي يزرعها الناس فيك. فكان ان قرر ان يبدأ مشواره البحثي عن نماذج يقتات من تجاربها. صار يبحث في كل مكان عن تلك الودائع النادرة للغاية، فوجد منها الشيء اليسير.
سألته بأن لا يحزن كثيرا، وابلغته بأنّ الزمن ما عاد زمن القامات والقلوب الكبيرة. صار الزمن زمن الاقوال ولا الافعال.
نهاية، دعوته الى الصلاة علّ الله يفتقدنا بقادة، فأزمة العالم وكل ازماتنا في كل مكان تختصر بندرة القادة وكثرة المتسلطين. واضأت واياه شمعة ومضيت...

  • شارك الخبر