hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

تراب

الثلاثاء ١٥ آب ٢٠١٧ - 06:28

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

تطلع في الليل الى نجومه، وقال: " لماذا يا ابي لا استلقي واياك وامي على الهلال ونروح نلتقط النجمات، لكل منا نجمة او أكثر؟ اعشق صيد النجوم. الا نستطيع الى ذلك سبيلا؟". فسألته كيف له ان يبلغ الى الهلال العالي. فأجاب: "نتسلق ببساطة الجبل العالي ونبلغ القمة. ومن هناك نتسلل الى القمر. نستقر جميعا فوق. نتأرجح كل ما صار القمر هلالا. ونتفرج على الليل والدنيا من فوق. ونحضر لمنزلنا الثريا فهي أجمل من انوار غرفتنا". ابتسمت لكني لم اشأ ان اغتال خياله. فأبلغته بانّ حلمه طالما راودني عندما كنت في عمره. ما علّق على الموضوع الا بعد دقائق سائلا إذا ما كان حقا والده قد ولد صغيرا مثله. ففي يقينه انّ بعض الناس تولد كبارا والبعض الاخر صغارا. فسألني عن طفولتي وامي وجديّ. فأبلغته بأنهم كانوا لكنهم مضوا الواحد تلو الاخر عن مسرح الحياة. وقلت: "خطفهم النوم على خلسة زمانا قبل ان تولد يا ولدي او عندما كنت رضيعا". فسألني عن مكان اقامتهم، فأجبت: "على ضفة نهر الانتظار الكبير يا ولدي حيث لا زمان ولا مكان". وراح يستفسر عن النهر والضفتين والناس وقصصهم.

واستسلم لليل الى ان اتاه النهار. استفاق الصبي. وككل صباح وعلى عادته، مضى الى حديقة المنزل حيث التراب والازهار والأشجار والرياحين والعصافير والفراشات والنمل وكل الكائنات التي تحيا في حديقتنا. فالصبي كان مغرما أيضا بالتراب بشكل مواز لانشداده الى النجوم.
عجن عجنته من تراب، وتمتم لها قبل ان يصنع منها اشياءه. ولمحني اراقبه عن بعد. فتطلع بي، وسأل:" من اين يأتي التراب؟ اليس له اب وام؟". فأجبت: "التراب سرير البشرية. انه يختزل اسرارها، ويحتضن الأجساد والديدان والنمل والكائنات". وابلغته بأنّ الروح إذا ما هبت في التراب تخرج منه بشرا وتحيي قصصا انطفأت. قلت:" لذا فانه من اجل كمشة تراب يموت الكثير من الشرفاء". لكني حذرته من الغرق في وحول التربة.
بدا مهتما، فتابعت: "كلّ شيء يدب او يطير يخرج مما تمسك في يديك ويعود اليه. حافظ على التراب لأنه يهجر. حذار من هجرته، فمع هجرته، تزول الحياة ولا يعود في الأرض ماء او خضرة او هناء. قلت: "ان رحل التراب يا ولدي، تتعرى الارض ولا نعود نحيا من بعد". فسألني لماذا يرحل التراب. فأجبت: "التراب يا ولدي يرحل هربا من استبداد البشر. يرحل حزنا على انحسار العشب والشجر". وتابعت:" التربة ام النبات من زواجها بالشمس. وهي امنا باقتران الطين بالروح. والأغذية ثمار التراب بفعل اقترانه بالنبات. يستضيف التراب وجوها وكائنات. فلولا الجذور والكائنات لكانت الكثير من الغازات لا تتحول الى أغذية مفيدة ولكانت البشرية قد فنيت. انتبه الى التربة كما الى تربة نفسك فهما متشابهتين. لا تفرط في استعمال الكيماويات في الأولى ولا تدمن على التبجيل والمديح والاطراء في الثانية. فالكثير من هذا او ذاك يسمم التربة ويلوث مياها".
تطلع ولدي الى حبيبات التراب وحاول ان يرصد حبيبات الرمل عن حبيبات السلت والطين. صار يتطلع اليها بعيون المكتشف الذي يحاول تفكيك الغازها. حاول ان يعاين كيف انّ تلك الحبيبات تخزن المياه والمواد العضوية والاوكسيجين والكائنات. فقال في عمق سره: "غريب انت يا كون وكثيرة هي اسرارك". قال لي: " اتعرف يا ابي انّ الحجارة هي حلي التربة والخضرة زينتها". ضحكت وتابعت:" لا تنسى يا صغيري بأنّ التربة هي مهد ولحد الترابيين الذين نحن منهم. الا فأمسك كمشة تراب وذريها في الريح واسألها باسم إله الأرواح ان تبين لك أطياف من تضم". وصار يمسك من تراب الأرض الكمشة بعد الكمشة، ويذريهم مع الريح. فتبان له اشكال واطياف أناس يكلمها. وسمعته يقول للتراب بخفر: "غريب انت يا كون، وكثيرة هي اسرارك. وانا صغير لا اقوى عليها".
 

  • شارك الخبر