hit counter script

باقلامهم - مازن ح. عبّود

ابني والبحر

الثلاثاء ١٥ حزيران ٢٠١٧ - 05:55

  • Aa
  • ع
  • ع
  • ع

مضى الى البحر، وجلس قبالته. تطلع بالأزرق الكبير بعينين سوداويتين كرويتين وراح يكلمه. بدا كأنه يكلم شخصا عرفه. قال: "أتراك من تكون يا واسع؟ من ذا الذي صنعك؟ ماذا تخفي ورائك؟ من يسكنك؟ وكيف تحتضن الشمس وتغيّبها كل ليلية؟ من تكون يا كبيرا؟"
استكان البحر قليلا، للحظات. وخرجت من جوفه موجات صغيرة غسلت قدميّ الطفل برفق. خاطب الأزرق الكبير اسود عيني ابني الصغير. وقال: "انا من انا، ولا اكشف سري للأطفال. فأنا سرير الشمس ومرآة القمر والكواكب وخزان القصص والاساطير. أتراك انت من تكون كي تخاطبني هكذا؟ الا تعلم بانّ اجدادك عبدوني، ومازال يحتار بأمري اهلك؟".
أجاب طفلي: "انا من انا. انا ابن ابي وامي. انا ابن الحياة الذي يحاول ان يكتشف دروبها ومسالكها، وان يلج الى عمق مكنونات العناصر. انا صبي ولدت للتو واريد ان اعرف كل شيء. اريد ان اعرف من تكون علني أدرك من أكون".
صمت البحر. وضحك الأزرق الكبير في سر صمته. وخرجت من اعماقه اسماك عانقت زرقة السماء. ودعا البحر الصبي الى رحلة في جوفه والاستماع الى حركات الموج تخاطب الشواطئ.
قال: "كانت يابستك مياها. وكانت روح الرب تطوف على المياه يا صبي. الى ان امر الرب فظهرت اليابسة والى ان خلقك".
خرجت الأرض من رحمي، والى رحمي تعود هذه المسكونة التي لا تعرف حدودها. قل لأهلك ولبني قومك ان يحذروا من غضبي. قل لهم ان يحذروا الطوفان.
خلقتكم فأدخلتم الأرض في عصر الانسان. وعصركم الغاء وطغيان. اريد منكم ان تكونوا حكاما على الأرض فتسوسوا اخوتكم والحيوان والنبات والعناصر برفق. الا انكم انهيتم العناصر والحشرات والنباتات والحيوانات واقصيتم الانسانية عن البشرية. جعلتموني خزانا لسمومكم ومستودعا لنفاياتكم، واقتحمتم مملكتي فبنيتم حوائطا من اسمنت وابنية من وهن. جعلتم حيث تعيشون مكبا للقمامة، ومزجتم هواءكم بانبعاثات حضارتكم البائدة. اقمتم قواعدا اقتصادية وانظمة لا تعير الطبيعة والبحار اهتماما.
تظنون بانكم أعظم مني ومن كل العناصر. كلا لستم كذلك. فحذار من الطوفان. حذار ان تبتلعكم مياهي المالحة، فلا تكونوا من بعد".
وتابع الأزرق المتمرد في سكون:
"انا مهد اليابسة ولحدها يا صبيا. إذا انحسرت ظهرت وإذا امتددت غابت. انا مملكة الاسرار التي ليس لها بداية ونهاية. مني يخرج ما يملح كل الأرض. التهم الهموم فأصنع منها ملحا.
حجبتم عني الجداول والمياه العذبة. لكنّ الكتل الثلجية المتجمدة تزول والحلاوة في عالمكم تزول ومعها كل المياه الحلوة واعتدال المواسم.لا تقولوا باني انا من يلتهم البشر ومن يغمر المدائن، فحضارتكم تلتهمكم، وتوقف تجدد الحياة.
حضارتي هي حضارة التواصل والحياة. ركبني اهلكم وحملوا حبة الحنطة الى اصقاع المتوسط، فانبتت حضارة. ركبني اجدادكم واسسوا إمبراطورية من تبادل وحضارة. صنعوا نظاما عالميا شكل ومضة وأنموذجا لكيفية تعاطي الشعوب. ركبني اجدادكم وحملوا الحرف وحضارة المحبة التي مازالت واحة لا بل فلكا يحميكم من الطوفان الذي يهدد حضارتكم بنسختها الحالية الساقطة".
ثمّ سأل البحر الصبي ان يركب الحوت كي يرى اعماقه. والتهم الحوت الصبي واخذه في رحلة الى الأعماق، فرأى كيف ان جوف البحر موطن للكثير من الحيوانات والاسماك والنباتات على أنواعها. اراه عظمته وكل قصص واساطير الحضارة. فذهل الصبي. ثمّ اراه كيف بدأ جوف البحر يتصحر وحرارته تتغيّر وقلويته تتبدل بفعل نفايات البشر الصلبة والسائلة والغازية وتعدياتهم. اراه كيف صار المتوسط مقبرة البشر الهاربة من غي البشر. اسمعه أصوات استغاثة صبيان وبنات من عمره وجدت في مياهه المالحة مفرا من البشر وعوالمهم. لفظ التنين الصبي على الشاطئ عند المغيب. خرج الصبي من بطن الحوت وقد حزنت عيناه السوداويتان الكبيرتان وأطلقتا دمعتين ملحتا المالح الكبير. فتلقف الأزرق الكبير دمعتا ابني الصغير، وحملتهما ملائكة البحار الى من خلقها. سرّ إله البحار بهما كثيرا واستكان. فدموع الصغار على نية الكبار ابلغ عنده من كل الاضاحي.

  • شارك الخبر